كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

وَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ فِي الْوَلِيمَةِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ الْأَفْضَلُ لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي الْيَمِينِ أَوْ الْيَسَارِ وَمَا حُكْمُ نَقْشِهِ بِالذِّكْرِ أَوْ غَيْرِهِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ إيثَارُ الْيَمِينِ وَفِي أُخْرَى إيثَارُ الْيَسَارِ وَقَدْ بَيَّنْتُهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَنَا لُبْسُهُ فِي الْيَمِينِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» أَيْ مِمَّا هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّخَتُّمِ تَكْرِيمًا - أَيُّ تَكْرِيمٍ - فَيَكُونُ فِي الْيَمِينِ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُكْرَهُ فِي الْيَمِينِ. وَيَكُونُ فِي الْيَسَارِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْخَاتَمِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَوَاتِيمِ فِيهَا نَقْشُ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ سَهْلٍ مِنْ أَنْ يَقْلَعَهُ مِنْ يَسَارِهِ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ حَتَّى فِي الْخَلَاءِ وَيَجْعَلَهُ فِي فَمِهِ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي كَرَاهِيَةِ جَعْلِهِ فِي الْيَمِينِ أَنَّهُ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنْ التَّكْرِيمِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِي الْيَدِ لِلْخَتْمِ بِهِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا كِتَابًا مَطْبُوعًا فَاتَّخَذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَاتَمًا وَنَقَشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» فَإِذَا كَانَ مَوْضُوعًا فِي الْيَدِ فَيَتَنَاوَلُ لِلْخَتْمِ بِهِ فَالتَّنَاوُلُ إنَّمَا يُسَنُّ بِالْيَمِينِ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِالْيَسَارِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ سُنَّةُ لُبْسِهِ مُتَقَيِّدَةً بِالْخَتْمِ بِهِ أَمَّا إذَا لَمْ تَتَقَيَّدْ بِذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ خَاتَمَانِ خَاتَمٌ يَخْتِمُ بِهِ وَخَاتَمٌ يَلْبَسُهُ دَائِمًا» فَلَا يُتَّجَهُ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ الْتَزَمَ مَا فِي الِاعْتِرَاضِ فَقَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَالْأَحْسَنُ إزَالَتُهُ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ وَاسِعٌ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا أَجَبْت بِهِ عَنْ احْتِجَاجِ مَالِكٍ فَقَالَ: الْخَاتَمُ زِينَةٌ مُرَخَّصٌ فِيهَا أَصْلُهَا الْحَاجَةُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا اتَّخَذَهُ لِطَبْعِ الْكُتُبِ حِينَ قِيلَ لَهُ إنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا الْكِتَابَ الْمَطْبُوعِ. وَلَكِنْ رُخِّصَ فِيهِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّهُ يُثْقِلُهَا وَيَشْغَلُ الْبَالَ وَافْتَرَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي الْيَسَارِ وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْبَاجِيُّ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ فَقَالَ: الثَّانِي هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَرِهَ التَّخَتُّمَ فِي الْيَمِينِ قَالَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَ الْخَاتَمَ فِي يَمِينِهِ لِلْحَاجَةِ يَتَذَكَّرَهَا أَوْ يَرْبِطَ خَيْطًا فِي أُصْبُعِهِ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يَلْبَسُهُ فِي الشِّمَالِ وَيَسْتَنْجِي بِهِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. اهـ.
وَفِيهِ مَا فِيهِ وَخَبَرُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ عَشْرِ خِصَالٍ وَمِنْهَا وَعَنْ التَّخَتُّمِ إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ» قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ أَفْتَى بِجَوَازِ لُبْسِ الْخَاتَمِ أَيْ مُطْلَقًا وَقَالَ لِمَنْ أَفْتَاهُ أَخْبِرْ النَّاسَ أَنِّي أُفْتِيك بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ مَالِكٌ بِذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي إنْكَارِهِمْ لَهُ إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَلْبَسُهُ عَلَى الْجَنَابَةِ وَأَدْخُلُ بِهِ الْخَلَاءَ وَأَكْتُبُ فِيهِ ذِكْرَ اللَّهِ.
وَأَجَازَ الْحَسَنُ نَقْشَ الْآيَةِ فِيهِ وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَاتَمِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا وَزْنُهُ دِرْهَمَانِ وَفَصُّهُ مِنْهُ وَنُقِشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَنَهَى أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى مَاتَ» وَنَقَشَ مَالِكٌ فِي خَاتَمِهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَلَبِسَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ سَقَطَ مِنْ غُلَامِهِ مُعَيْقِيبٍ أَوْ مِنْهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَتِهِ فِي بِئْرِ أَرِيسَ عِنْدَ قُبَاءَ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ بَابِ الْفِتْنَةِ الَّتِي مَا زَالَتْ تَطْمُو إلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ تَزَايَدَتْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَلَمَّا سَقَطَ مِنْ عُثْمَانَ اتَّخَذَ بَدَلَهُ مَنْ وَرِقٍ وَنَقَشَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَيْضًا قِيلَ: وَذَكَرَتْ الْهَوَاتِفُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ أَمَنَةً لِلصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمِنْ حِينِ سُقُوطِهِ دَخَلَ بَيْنَهُمْ مَا دَخَلَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْفِتَنِ وَتَغْيِيرِ الْقُلُوبِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ نَبَذَهُ» فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ لِبَيَانِ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلنِّسَاءِ وَرُوِيَ فِي كَرَاهَتِهِ لَهُنَّ مَا لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.

الصفحة 264