كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

هَذِهِ الْآثَارِ أَخَذَ الْمُتَصَوِّفَةُ لِبَاسَ الْخِرْقَةِ وَالتَّزَيِّي وَقَدْ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالشَّيْخِ يُوسُفَ الْعَجَمِيِّ الْمَدْفُونِ بِقَرَافَةِ مِصْرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَذَكَرَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ سَنَدَهُ فِي الْخِرْقَةِ وَالْمُرَقَّعَةِ إلَى أُوَيْسٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِلَى الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَلِمَنْ ثَبَتَتْ عَقِيدَتُهُ فِيهِمْ وَقَوِيَ يَقِينُهُ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ بَاطِنِهِ أَنْ يَلْبَسَ زِيَّهُمْ وَهُوَ الْخِرْقَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَزَيَّا بِزِيِّ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَذَكَرَ غَيْرُ سَيِّدِي يُوسُفَ الْعَجَمِيِّ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ فِي طَرِيقِ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ أَنَّهُ إذَا صَحَّ لِلْمُرِيدِ مَقَامُ التَّوْبَةِ وَالْوَرَعِ وَشَرَعَ فِي مَقَامِ الزُّهْدِ فَقَدْ آنَ لَهُ لُبْسُ الْخِرْقَةِ إنْ رَغِبَ فِيهَا فَلْيُرَاعِ مَا يَلْزَمُهُ فِي لُبْسِهَا لَكِنْ قَدْ ارْتَفَعَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَانْحَلَّ النِّظَامُ وَوَقَعَ الرِّضَا مِنْ جِهَةِ الِاتِّبَاعِ بِالْأَوْفَقِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَتْبُوعِينَ بِالِابْتِدَاعِ وَمِنْ ذَلِكَ يَنْتَشِرُ الْفَسَادُ وَيَظْهَرُ الْعِنَادُ فَلَابِسُ الْمُرَقَّعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّبَ نَفْسَهُ بِالْآدَابِ وَرَاضَهَا بِالْمُجَاهَدَاتِ وَالْمُكَابَدَاتِ وَتَحَمَّلَ الْمَشَاقَّ وَتَجَرَّعَ الْمَرَارَاتِ وَجَاوَزَ الْمَقَامَاتِ وَاقْتَدَى بِالْمَشَايِخِ أَهْلِ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ وَصَحِبَ رِجَالَ الصِّدْقِ وَعَرَفَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَحُدُودَ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلْمَشْيَخَةِ وَالْإِرَادَةِ. اهـ.
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ صَدَقَ الشَّيْخُ فِيمَا ذَكَرَ لِأَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْخِرْقَةَ وَالْمُرَقَّعَةَ وَزِيَّ الصَّالِحِينَ الْيَوْمَ إلَّا كُلُّ مُدَّعٍ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ حِلْيَةِ الْقَوْمِ إلَّا الْقِشْرَةَ خَاصَّةً خَلِيٌّ مِنْ الْمَعْنَى لَا تَرَى إلَّا دَعَاوَى بَاطِلَةً وَأُصُولًا وَاهِيَةً وَاتِّبَاعَ الْآثَارِ بِالظَّوَاهِرِ خَاصَّةً لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْقَوْمِ وَرُبَّمَا لَبِسَهَا بَعْضُ الْعَوَامّ يُلْبِسُونَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا وَلَيْسُوا كَذَلِكَ وَرُبَّمَا لَبِسَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ لُصُوصٍ وَنَحْوِهِمْ وَهَذَا لَهُ مَنْدُوحَةٌ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ مَنْ يَتَوَصَّلُ لِتَحْصِيلِ الدُّنْيَا بِطَرِيقَةِ الصَّلَاحِ أَشَرُّ مِنْ الظَّلَمَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصُّوفِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ وَحَالُهُمْ تَرْكُ الْكَدَرِ وَامْتِلَاءُ الْفِكَرِ وَاسْتِوَاءُ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ قِيلَ: هُوَ كَمَالُ الْمَعَانِي وَتَرْكُ الدَّعَاوَى وَهَؤُلَاءِ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ. وَصُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ وَهُمْ الَّذِينَ وُقِفَتْ عَلَيْهِمْ الْخَوَانِكُ وَالرُّبَطُ وَشَرْطُهُمْ الْعَدَالَةُ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَهِيَ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَأَنْ لَا يَتَمَسَّكُوا بِفُضُولِ الدُّنْيَا مِنْ التِّجَارَاتِ وَنَحْوِهَا. وَصُوفِيَّةُ الرُّسُومِ وَهُمْ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى لُبْسِ زِيِّ الْقَوْمِ فَلَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إلَّا فِي تَحْصِيلِهِ وَآدَابٌ وَضْعِيَّةٌ يَتَعَارَفُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَمَنْزِلَةُ هَؤُلَاءِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ مَنْزِلَةُ مَنْ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْمُجَاهِدِينَ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْجِهَادِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَشَارَ إلَيْهِمْ - سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ دَارِسَةٌ وَحَالُ مَنْ يَدَّعِيهَا الْيَوْمَ كَيْفَ تَرَى.
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ سَنَدِهِ فِي الْخِرْقَةِ فَقَالَ: أَمَّا لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ أَوْ الْعِمَامَةِ أَوْ الثَّوْبِ فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ اسْتَحْسَنَهُ بِمَنْزِلَةِ خِلَعِ الْمُلُوكِ وَلَمْ يَرَهُ آخَرُونَ إذْ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُسِيَ ثَوْبًا قَالَ: وَقَدْ كُنْت لَبِسْت خِرْقَةَ التَّصَوُّفِ مِنْ طُرُقِ جَمَاعَةٍ أَبْيَنُهَا طَرِيقُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْقَادِرِ. وَهِيَ أَجَلُّ الطُّرُقِ الْمَشْهُورَةِ وَلَبِسَهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ السُّهْرَوَرْدِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ الدِّمَشْقِيِّ وَأَخَذْت سُلُوكَ الطَّرِيقِ عَنْ الشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ وَأَبِي مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيِّ وَأَخَذْنَا عَنْ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْفُضَيْلِ وَالدَّارَانِيِّ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَأَمَّا نَفْسُ لُبْسِ الْخِرْقَةِ فَاسْتَحْسَنَهُ جَمْعٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَأَسْنَدُوهُ مِنْ طَرِيقٍ مَشْهُورَةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ بِهَا مَنْفَعَةٌ وَاتِّصَالٌ وَانْضِمَامٌ إلَى أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ. اهـ. وَيَقَعُ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنْ يَقْنَعَ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِأَدْنَى عَمَلٍ لَعَلَّهُ يَنْجَرُّ إذَا تَشَبَّهَ بِالْقَوْمِ إلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهَذَا قَصْدٌ حَسَنٌ رَأَيْنَا بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَفْعَلُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لُبْسُ الْخِرْقَةِ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ احْتِيَاجُهُ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْأَثَرِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ لِيُخْرِجَهُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ مِنْ مَقَاطِعِ الِاجْتِهَادِ، وَالرَّأْيُ الثَّانِي سَلَامَتُهُ مِنْ

الصفحة 266