كتاب إكمال تهذيب الكمال ط العلمية (اسم الجزء: 1)

سَعِيد القَطَّان، وَوَكِيع بن الجَرَّاح، وَعَبْد الرَّحْمَن بن مَهْدِي، وَغَيْرهم مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، أَنَّهُم تَكَلَّمُوا فِي الرِّجَالِ وَضَعَّفُوا.
وِإنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا، واللَّه أَعْلَمِ، النَّصيحَة لِلمُسْلِمِينَ، لا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُم أَرَادُوا الطَّعْنَ عَلَى النَّاسِ أو الغيبَة، إِنَّمَا أَرَادُوا عِنْدَنَا أنْ يُبَيِّنُوا ضَعْفَ هَؤُلاءِ، لِكَي يُعْرَفُوا؛ لأنَّ بَعْضَ الَّذِينَ ضُعِّفُوا كَانَ صَاحِب بِدْعَة، وَبَعْضهُم كَانَ مُتَّهمًا فِي الحَدِيثِ، وَبَعْضهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ غَفْلَة وَكَثْرَة خَطَأ، فَأَرَادَ هَؤُلاءِ الأئِمَّة أَنْ يُبَيِّنُوا أَحْوَالَهُم، شَفَقَة عَلَى الدِّينِ وَتَثَبُّتًا؛ لأنَّ الشَّهَادَة فِي الدِّينِ أَحَقُّ أَنْ يُتَثَبَّتَ فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الحُقُوقِ وَالأمْوَالِ.
قال ابن رجب في شرحه على كلام الترمذي هذا: مقصود الترمذي، رحمه اللَّه، أن يُبيِّن أن الكلام في الجرح والتعديل جائز، قد أَجْمَعَ عليه سلف الأمَّة وأئمَّتها، لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السُّنن، ممَّا لا يجوز قبوله.
وفي "الموطأ": وَحَدَّثَنِي مَالِك، عَنْ رَبِيعَة بن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأشْعَرِيّ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عُمَر بن الخَطَّاب، فَاسْتَأذَنَ ثَلاثًا ثُمَّ رَجعَ، فَأَرْسَلَ عُمَر بن الخَطَّاب فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَدْخُلْ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: سَمِعْتُ رَسُول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يَقُولُ: "الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ، وِإلا فَارْجِعْ"، فَقَالَ عُمَر: وَمَنْ يَعْلَمُ هَذَا، لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ لأفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا. فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى حَتَّى جَاءَ مَجْلِسًا فِي المَسْجِدِ، يُقَالُ لَهُ: مَجْلِسُ الأنْصَارِ، فَقَالَ: إِنِّي أَخْبَرْتُ عُمَر بن الخَطَّاب أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يَقُولُ: "الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ، وَإلا فَارْجِعْ"، فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَعْلَمُ هَذَا لأفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَلْيَقُمْ مَعِي. فَقَالُوا لأبِي سَعِيد الخُدرِيّ: قُمْ مَعَهُ. وَكَانَ أَبُو سَعِيد أَصْغَرَهُمْ، فَقَامَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَر بن الخَطَّاب، فَقَالَ عُمَر بن الخَطَّاب لأبِي مُوسَى: أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وعَنْ طَاوس، قَالَ: جَاءَ هَذَا إِلَى ابن عَبَّاس -يَعْنِي: بُشَيْر بن كَعْب- فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي أَعَرفْتَ حَدِيثِي كُلّهُ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلّهُ، وَعَرفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ الناس الصَّعْب والذلول، تَرَكْنَا الحَدِيث عَنْهُ.
فهذا الاهتمام البالغ من هؤلاء الصحابة، لم يكن ذلك منهم طعنًا في الصحابيَيْن الكريميْن، المغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، ولم يكن موقف ابن عباس من بشير بن كعب طعنًا فيه واتهامًا له، وإنما كان الغرض تعليم الناس الاحتياط، لحديث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؛ لذلك جاءت رواية أُخرى صحيحة عن عمر بن الخطاب لأبي موسى:

الصفحة 8