كتاب إكمال تهذيب الكمال ط العلمية (اسم الجزء: 1)

أما إني لم أتَّهمك.
ثم جاء عصر أتباع التابعين فمَنْ بعدهم، فكثر الضعفاء، والمغفلون، والكذابون، والزنادقة، فكثر اهتمامهم، وأشد في تتبُّع الكذابين والضعفاء، وذلك بحسب الحاجة.
فلما رأى أهل العلم ذلك، نهضوا لتبيين أحوال الرجال، والذَّب عن حديث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فما من مصر من الأمصار إلا وفيه جماعة يمتحنون الرواة، ويعرفون أحوالهم، ويقارنون مرويَّاتهم، ويتحقَّقون من سماعاتهم.
قال الخطيب: قَالَ مَحْمُد بن غَيْلان: سَمِعْتُ المُؤَمل، ذُكِرَ عِنْدَهُ الحَدِيث الَّذِي يُرْوَى عَنْ أُبَيّ، عَنِ النَّبِي صلى اللَّه عليه وسلم فِي فَضْلِ القُرْآن، قَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ ثِقَةٌ، سَمَّاهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ ثِقَةٌ، سَمَّاهُ، قَالَ: أَتَيْتُ المَدَائِن فَلَقِيتُ الرَّجُلَ الَّذِي يَرْوِي هَذَا الحَدِيث، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنِي فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِي البَصْرَة، فَقَالَ: هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ، هُوَ بِوَاسِط فِي أَصْحَابِ القَصَب. قَالَ: فَأَتَيْتُ وَاسِطًا فَلَقِيتُ الشَّيْخَ، فَقُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ بِالمَدَائِنِ فَدَلَّنِي عَلَيْكَ الشَّيْخ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَ البَصْرَة. قَالَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ هُوَ بِالكَلاء، فَأَتَيْتُ البَصْرَةَ، فَلَقِيتُ الشَّيْخ بِالكَلاء، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنِي، فَإِنِي أُرِيدُ أَنْ آتِيَ عَبَّادَانَ. فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْخ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ هُوَ بِعَبَّادَانَ. فَأَتَيْتُ عَبَّادَانَ فَلَقِيتُ الشَّيْخَ، فَقُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّه، مَا حَالُ هَذَا الحَدِيث؟ أَتَيْتُ المَدَائِن فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَاسِطًا، ثُمَّ البَصْرَة، فَدُلِلتُ عَلَيْكَ، وَمَا ظَنَنْتُ إِلا أَنَّ هَؤُلاءِ كُلَّهُمْ قَدْ مَاتُوا، فَأَخْبِرْنِي بِقِصَّةِ هَذَا الحَدِيثِ. ففَالَ: أَنَّا اجْتَمَعْنَا هُنَا، فَرَأَيْنَا النَّاسَ قَدْ رَغِبُوا عَن القُرْآنِ وَزَهدُوا فِيهِ، وَأَخَذوا فِي هَذِهِ الأحَادِيثِ، فَقَعَدْنَا فَوَضَعْنَا لَهُمْ هَذِهِ الفَضَائِلَ حَتَّى يَرْغَبُوا فِيهِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ قبُول المَرَاسِيل وَالعَمَل بِهَا، بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لِرِوَايَتِهَا وَجْهٌ. وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأنَّهُ قَدْ يُرْوَى مِن الأخْبَارِ، وَيُسْمَعُ مَا قَدْ لا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ العُلَمَاءِ، وَيُعْمَلُ بِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ، ويُكتبُ أَيْضًا مَا العَمَلُ عِنْدَ الكُلِّ عَلَى خِلافِهِ لِلمَعْرِفَةِ بِهِ، وَقَدْ يُرْوَى عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالمَتْرُوكِين الَّذِينَ لا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ بِأَحَادِيثِهِمْ، فَالتَّعَلُّقُ بِمَا ذَكَرَ المُخَالِفُ لا وَجْهَ لَهُ.
وقد استعملوا عدة طُرق للتحقق من حفظ الراوي، وصدقه، وأهليَّته، ومن ذلك:
- النظر في حال الراوي في المحافظة على الطاعة، واجتناب المعاصي، وسؤال أهل العلم به.
قَالَ شَاذَان: سَمِعْتُ الحَسَن بن صَالِح يَقُولُ: كُنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نكتُبَ عَن الرَّجُلِ، سَأَلْنَا عَنْهُ، حَتَّى يُقَالَ لَنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُزَوِّجُوه.
وعَنْ يَحْيَى بن مَعِين، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد بن عَبْد اللَّه الأنْصَارِيّ يَلِيقُ بِهِ القَضَاء، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا؛ فَالحَدِيثُ؟ فَقَالَ:
لِلحَرْبِ أَقْوَامٌ لَهَا خُلِقُوا ... وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ

الصفحة 9