كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 1)

" صفحة رقم 661 "
) وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( ، أي وطء ما وراء ذلكم . فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة ، إما بالقياس على الأكل عند منيقول بالقياس ، وإما بدليل سمعني عند من لا يقول به .
وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة ، وما نسق عليها وعلقه بعينها ، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به ، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ . والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل . وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم ، ولا يخص شيء منها إلا بدليل . قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى : ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( ، وبما روي من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أحلت لنا ميتتان ) . وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم . انتهى . فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ ، فلا نسلم له ذلك . وإن عنى لم يدخل ففي الإرادة ، فهو كما قال ، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به .
قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد . قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة . ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال . ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة . وقال الله تعالى : ) لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ( ، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله : ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). انتهى كلامه .
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال . وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( أحلت لنا ميتتان ) ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : ) كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ). وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به . مثال ذلك ما جاء في الحديث : ( نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن أكل كل ذي ناب من السباع ) . فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب . والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس . فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه . وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه .
والميتة : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة . واختلف في السمك الطافي ، وهو ما مات في الماء فطفا . فذهب مالك وغيره أنه حلال . ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله . وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه . وأما ما مات من الجراد بغير تسبب ، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام ، وعند ابن

الصفحة 661