كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 1)

" صفحة رقم 667 "
صارت في بطونهم ناراً . وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضاً . واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار . وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه . وأكثر العلماء على تأويل قوله : ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ( ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله ، والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار . وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار . وعبر بالأكل ، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال . وذكر في بطونهم ، أما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ). أو كناية عن ملء البطن ، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه . أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله ، إذ بذره ، وإن لم يأكله . وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ، لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ، لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر : فلو أن حياً يقبل المال فدية
لسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر : أكلت دماً إن لم أرعك بضربة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا
أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك . وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( ، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول ، قاله الراغب . وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم .
( وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقاً ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : ) قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( ، ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه ؟ لأن في التكلم ، ولو كان بشر ، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم . وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم . وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن . وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : ) قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ). فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم . وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . وقيل : ولا يكلمهم الله ، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه . وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ، لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله : ) وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ، فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام .
( وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال

الصفحة 667