كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 1)

التي يَفتتح بها مجالسَ وعظه وقصائده المطولة التي يختتمها بها، وكان سريع الإنشاء لذلك كله، وكلامه نظمًا ونثرًا مؤثِّر في سامعيه على ما فيه من لين، وسمعته غير مرة يقول: إنّ ذوقَه لا يساعده على النظم في وزن عروض من أعاريض الشعر ما خلا الطَّويل، هذا على اتّساع حفظه وحضور ذكره فنونَ الشعر على اختلاف أوزانه". ويتمم الحديث عن مجالس وعظه بقوله: "وكثيرًا ما كان يُتَعرَّضُ له في مجالسِ وعظِه بالرقاع مضمَّنةً أسولة (¬1) عويصة فيصدر عنه من سرعة الجواب عنها وحسنه وإيضاح خفيِّها وحلِّ مُشكلها ما يقضي منه العجب، شاهدت منه في ذلك كثيرًا، وقصدت الإغماض غير مرة أنا وجماعة من أصحابنا في كثير من الأسولة التي كنا نُودِعُها الرقاعَ المرفوعة إليه، فيأتي بالجواب عنها بما يبهت الحاضرين سرعةَ بديهة وحُسنَ ترتيب، وحينئذ [يعود] إلى ما كان فيه من وعظه"، وقد نوه بإنصافه في المناظرة وصبره على المباحثة: "لا يكاد يَخْلَى محاضرُه من مفاوضة علمية ومذاكرة وبحث ومساءلة، على ذلك عرفناه" (¬2). وكأن ابن عبد الملك يوازن بين هذا الشيخ وبعض الشيوخ الذين كانوا يضيقون ذرعًا بالأسئلة في حلقات الدرس ولا يتسع صدرهم للمناقشة، ولا يطيقون المفاتشة، ومهما يكن فإن كلام ابن عبد الملك السابق يدلنا -زيادةً على إعجابه بطريقة هذا الشيخ الوافد من بغداد الحامل لتراث واعظِها الكبير ابن الجوزي- على أنه في هذه المدة التي قضاها ابن رشيد في مَرّاكُش (655 - 666 هـ) قد اشتد ساعده وقويت عارضته وبدت نزعته إلى المصاولة التي تمكنت منه فيما بعده
لم يكتف ابن عبد الملك، وهو النَّهِم في العلم، الطُّلَعة إلى المعرفة، بهؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم في مَرّاكُش، وفيهم، كما رأينا، مَرّاكُشيّونَ بَلَديُّونَ وأندَلُسيّون ومَشارقة وافدون، ولكنه رحل إلى بعض مدن المغرب، كما كان في
¬__________
(¬1) أصلها "أسئلة" سَهّل الكاتب الهمزة الثانية ثم أبدل الياء واوًا تخفيفًا، وهو جائز في العربية (بشار).
(¬2) راجع ترجمة ابن رشيد في السفر الثامن رقم (75).

الصفحة 30