كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 1)

قبلُ بيتًا واحدًا ولا أشعرتُه بأني خُضت في نَظْم قطّ، فاستعفيتُه من ذلك فلم يُعفني، وقال: وما الذي يمنَعُك وموادُّ النظم كلُّها عندك عتيدة؟ فلا وجهَ لاستعفائك ولا بدّ لك من مشاركة الأصحاب فيما خاضوا فيه".
ونُحسُّ من هذه الفقرة المكانةَ المتميّزة التي كانت لابن عبد الملك على الأصحاب المذكورينَ لدى الوالي، ونكاد نُحسّ من تحرُّجه من قول الشّعر أن وراءه صفةً دينيّةً تجعلُه يَستعفي من المشاركة في مثل هذه المطارحات الإخوانيّة، وما نحسَبُ هذه الصّفة إلا أنها خُطةُ القضاء التي تليقُ بابن عبد الملك أكثرَ من صفة الكتابة الدّيوانية ونحوها, ولهذا نظُنّ أنه كان يومئذ قاضيًا في أغمات، وهذا ما لم يذكره مترجِموه فيما لم يذكروه، وذلك قبلَ أن تُسند إليه خُطة قضاء الجماعة بحضرة مَرّاكُش كما سنَذكرُه فيما بعد، وقد يُقوّي هذا الظنَّ أنّ ابنَ عبد الملك كان يُجالسُ الواليَ المذكور وحدَه دون غيره أحيانًا، قال في خلال استطراده المشار إليه: "فلما كان قُرَيْب المغرب خرَج أبو عليّ (الوالي) إلى مجلسه المُطلّ على الساقية العظمى السّلطانية المشرِف على الممرِّ الأعظم شرقيَّ الجامع، فجالسته هنالك منفردَيْن وكنت مقابلَ الممرّ وأبو عليّ (الوالي) مُقبِل علَيّ وقد استدبره بعضَ الاستدبار". فهذه الحالُ الموصوفة ليست حالَ كاتب لدى الوالي المذكور أو نديم له، وإنّما هي حالُ قاضٍ مثلًا يتمتّع باحترام الوالي، ولا سيّما إذا كانا معًا مشتركَيْنِ في عراقة الأصل والنَّسب، وزَمالة العلم والأدب، ومن يدري؟ فقد تكون بين الرجلين أواصرُ أخرى كالمُصاهرة مثلًا، ثم لا ننسى أنّ ابن عبد الملك يمتُّ من جهة أُمِّه -كما سبَق- بسببٍ إلى المغرب الأوسط بلدِ الوالي المذكور.
ومهما يكن الأمرُ فقد شارك ابنُ عبد الملك في الأخير في هذه المطارحة الأدبيّة وصَنَع قصيدةً عصماءَ نظمها في ليلة واحدة، قال: "ولقيتُه بها بعدَ العصر من الغدِ لمّا لم يتأتَّ لقاؤه بها صَدْرَ النهار لخروجه إلى بعض المواضع"، ثم قال: "وتربَّصت بأبي علي خَلْوته بدخوله إلى مجلسه الخاصّ من مجلسِه العامّ، ودفعتُ إليه القصيدة، فلمّا رآها قال لي: لمن هذه؟ فقلت: قفْ عليها، فقال لي: هذا خَطُّك،

الصفحة 88