كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 1)

فمن ناظمها؟ قلت: كاتبها، فاشتد تعجُّبه من فعلي أولًا وإتياني بها ثانيًا، حتى كان من كلامه: إنّ هذه البلادَ وَلّادة مُنجبة" ثم أورد القصيدة، وهي تقعُ في أكثر من 70 بيتًا مدح فيها الواليَ وأطنب في مدحه وذكر والدَه الفقيهَ المعروف الذي وَصَفَه بأنه "بحرُ العلوم درايةً وروايةً" كما نعَتَه بالدِّين المتين والوَرَع والتّقوى، ثم عطف على غَرَض "التذييل" الذي أشار به الوالي على جماعةِ الشّعراء من حاشيتِه وسَرَدَ قصّته.
ويُفهَمُ من الكلام السابق أنّ الواليَ المذكور كان له مجلسان: مجلسٌ عامّ يحضُره عامة حَفَظة الأدب والعلم وحَمَلة السّيف والقلم، ومجلسٌ خاصّ مقصورٌ على الخواصِّ منهم، وكان على رأس هؤلاء ابنُ عبد الملك حسبما يدُلّ عليه كلامُه، فهو يحضُر مجلسَيْه، وينفردُ بمجالستِه أحيانًا، والوالي يعرف خَطَّه، وهذا قد يؤيِّد ما ذهبنا إليه من أنه ربّما كان يتولّى خُطّة القضاء في أغمات يومئذ.
وقد أُعجِب الوالي بقصيدة ابن عبد الملك إعجابًا كبيرًا وأمَرَ كاتبَه بمعارضتها، فعارضَها بقصيدة لم تقَعْ منه موقعَ الاستحسان، قال: "فلم يرفَعْ أبو عليّ بها رأسًا، واتّخذ قصيدتي سميرًا ونجِيًّا وأُنسًا، يُوالي مطالعتَها, ولا يسأمُ مراجعتَها، وكلّما رجَعَ بها بصَرَه، وأعاد فيها نظرَه، زاد بها شغَفا، وشاء لها شرَفًا، فنَفِقَ سُوقُها، وشُهر سموُّها على أترابها وبُسوقُها". وفي هذا الكلام ما يزيدُ دلالة على الحُظوة التي كانت لابن عبد الملك عند هذا الوالي، وفيه أَيضًا دلالة على طبيعة ابن عبد الملك المعجَب بآثارِه, المفتون بكلامه، وذلك ما سوف نتحدّث عنه في موضعه.
والحقُ أنّ القصيدةَ في جُملتها لاحقة بشعر الفقهاء، وفيها تكلُّفٌ ظاهر، وإشاراتٌ علميّة تُعرب عن ثقافة ناظمها وغلَبة معارفِه على لسانه وعدم قُدرته على التخلُّص منها عند النظم، ولعلّ ذلك كان أَيضًا مجاراة لروح العصر وطبيعة البيئة الأدبيّة السائدة يومئذ.

الصفحة 89