كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (اسم الجزء: 1)

أَيْ يَحْذَرُ عَلَى وَقْتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: وَعَلَى الْقَلْبِ أَنْ يُزَاحِمَهُ عَارِضٌ.
وَالْعَارِضُ الْمُزَاحِمُ إِمَّا فَتْرَةٌ، وَإِمَّا شُبْهَةٌ، وَإِمَّا شَهْوَةٌ، وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُوقُ السَّالِكَ.
قَالَ: وَعَلَى الْيَقِينِ أَنْ يُدَاخِلَهُ سَبَبٌ
هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، فَمَتَى دَاخَلَ يَقِينَهُ رُكُونٌ إِلَى سَبَبٍ وَتَعَلُّقٌ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي يَقِينِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَطْعَ الْأَسْبَابِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ وَمُحَالٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجَاةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْكُفْرَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحَذَرَ مِنْهُ إِضَافَةَ يَقِينِهِ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ يَفْنَى بِالْمُسَبَّبِ عَنْهَا.
وَالشَّيْخُ مِمَّنْ يُبَالِغُ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ، لَا يَرَى وَرَاءَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ غَايَةً، وَكَلَامُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ فِي مُعْظَمِ الْأَبْوَابِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِمَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُمَا، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى، وَأَنَّ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ الطَّرِيقِ، بَلْ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى وَأَشْرَفُ.
وَمِنْ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَرَضَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِشْفَاقٌ يَصُونُ سَعْيَهُ عَنِ الْعُجْبِ، وَيَكُفُّ صَاحِبَهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْخَلْقِ، وَيَحْمِلُ الْمُرِيدَ عَلَى حِفْظِ الْجِدِّ.
الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ، وَالثَّانِي بِالْخُلُقِ، وَالثَّالِثُ بِالْإِرَادَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ مَا يُفْسِدُهُ.
فَالْعُجْبُ: يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُهُ الرِّيَاءُ، فَيُشْفِقُ عَلَى سَعْيِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ.
وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْخَلْقِ مُفْسِدَةٌ لِلْخُلُقِ، فَيُشْفِقُ عَلَى خُلُقِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ.
وَالْإِرَادَةُ يُفْسِدُهَا عَدَمُ الْجِدِّ، وَهُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ، فَيُشْفِقُ عَلَى إِرَادَتِهِ مِمَّا يُفْسِدُهَا.

الصفحة 515