كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (اسم الجزء: 1)

وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَزَوَّدُ لِخَلْوَتِهِ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ، فَإِذَا نَفَدَ ذَلِكَ الزَّادُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَزَوَّدُ قَدْرَ ذَلِكَ، فَيُقِيمُ فِي حِرَاءَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَقْضِي وَقْتَهُ فِي التَّفْكِيرِ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ، وَفِيمَا وَرَاءَهَا مِنْ قُدْرَةٍ مُبْدِعَةٍ، حَتَّى وَصَلَ مِنَ الصَّفَاءَ وَالْإِشْرَاقِ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ انْعَكَسَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الْغُيُوبِ عَلَى صفْحَةِ قَلْبِهِ الْمَجْلُوَّةِ، فَأَصْبَحَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ (¬1).
رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَاُ بدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ. . . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ (¬2).
وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا قَضَى جِوَارَهُ (¬3) مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِهِ.
¬__________
(¬1) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 85.
(¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بَدْءِ الوحي - باب (3) - رقم الحديث (3) - وأخرجه في كتاب التعبير - باب أوَّلُ ما بُدِئَ به رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي- رقم الحديث (6982) - ومسلم في صحيحه- كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160).
(¬3) الجِوَارُ: الاعْتِكَافُ. انظر النهاية (1/ 302).
قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 400): والفرقُ بينَ الجِوَار والاعتِكافِ، أن الاعتكاف لا يكُونُ إلا داخِلَ المَسْجِدِ، وأما الجِوَارُ فإنه قَدْ يكُونُ خارِجَهُ.

الصفحة 166