كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (اسم الجزء: 1)

الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ (¬1) فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، . . . حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ (¬2) وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (¬3) حَتَّى بَلَغَ مِنِّيَ الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي" (¬4)، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ (¬5) فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّيَ الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي"، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (¬6) الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي"، فَقَالَ:
¬__________
(¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 735): أي في أوَّل المُبْتَدآت مِنْ إيجاد الوحي الرُّؤيا، وأما مُطْلَقُ ما يدلُّ على نبُوَّته، فتقدَّمَتْ له أشياء مثل: تسليمِ الحَجَر كما ثبت في صحيح مسلم.
(¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 35): أي الأمرُ الحقُّ، وسُمِّيَ حَقًّا لأنه وحيٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى.
(¬3) في رواية ابن إسحاق في السيرة (1/ 273): فَغَتَّنِي.
قال ابن الأثير في النهاية (3/ 308): الغَتُّ والغَطُّ سواءٌ، كأنَّه أراد عصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا حتى وجَدْتُ منه المَشَقَّةَ.
(¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 172): أرسَلَنِي: أي أطْلَقَنِي.
(¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 35): أي ما أُحْسِنُ القِرَاءَةَ، فلمَّا قال ذلك ثلاثًا قِيلَ له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي لا تقرؤُهُ بقوَّتِكَ ولا بمَعْرِفَتِكَ، لكن بحَوْلِ ربِّكَ وإعانَتِهِ، فهو يُعَلِّمُكَ، كما خلقكَ، وكما نَزَعَ عنكَ عَلَقَ الدَّمِ، وغَمْزَ الشَّيْطَانِ في الصِّغَرِ، وعلّم أُمَّتَكَ حتى صارَتْ تَكْتُبُ بالقلَمِ بعدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً. . .، والتقدير: لسْتُ بقَارِئٍ البَتَّةَ.
(¬6) قال الحافظ في الفتح (9/ 738): والحكمةُ في هذا الغَطِّ لإظهارِ الشِّدَّةِ، والجِدِّ في الأمر تَنْبِيهًا على ثِقَلِ القولِ الذي سَيُلقى إليه، فلما ظهر أنه صَبَرَ على ذلك أُلْقِيَ إليه. ولعل الحِكْمَةَ في تكريرِ الإقراءِ الإشارةُ إلى انْحِصَارِ الإيمان الذي يَنْشَأُ الوحيُ بسببِهِ في ثلاثٍ: القولُ، والعملُ، والنيَّةُ، وَأَنَّ الوحي يشتملُ على ثلاثٍ: التوحيدُ، والأحكامُ والقصصُ، وفي تكريرِ الغَطِّ الإشارة إلى الشَّدائدِ الثلاثِ التي وقعتْ لهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي: الحَصْرُ في الشِّعْبِ، وخروجُه في الهجرةِ، وما وقع له يوم أُحدٍ، وفي الإرسالاتِ الثلاثِ إشارة إلى حصولِ التيسيرِ له عقب الثلاث المذكورةِ: في الدنيا، والبَرْزَخِ، والآخرةِ.

الصفحة 172