كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَمَسَّكًا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَلَا نَكِيرٍ إِلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمُخَالِفِينَ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِإِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ مَعَ تَكَرُّرِ الْأَزْمَانِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَبِّهَ أَحَدٌ عَلَى فَسَادِهِ وَإِبْطَالِهِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا قَطْعَ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ بِغَيْرِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ دَوْرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحَادِيثِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ عَدَمِ النَّكِيرِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا.
وَذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِبِنَاءِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا لِإِحَالَةِ (١) الْعَادَةِ أَنْ لَا تُعَرِّفَ الصَّحَابَةُ لِلتَّابِعِينَ طَرِيقَ صِحَّتِهَا؛ قَطْعًا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَوْ وُجِدَ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ نَكِيرٌ لَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الْخِلَافُ فِيهِ، كَاشْتِهَارِ خِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَحَدِّ الشُّرْبِ، وَمَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ، بَلْ كَانَ نَقْلُهُ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ مَا خُولِفَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ خِلَافِ النَّظَّامِ فِي ذَلِكَ مَعَ خَفَائِهِ وَقِلَّةِ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِهِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ مِنْ تَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِمُخَالِفِ الْجَمَاعَةِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ ظُهُورًا لَا رَيْبَ فِيهِ.
---------------
(١) صَوَابُهُ لَأَحَالَتْ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ جَوَابُ: لَوْ.

الصفحة 221