كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِذَا شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَاحِدٌ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشِذَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ حَمْلُ لَفَظِ (الْأُمَّةِ) عَلَى الْكُلِّ لِكَوْنِ الْحُجَّةِ فِيهِ قَطْعِيَّةً لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي حُجَّتِنَا.
وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» (١) " عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ ; لِأَنَّهُ لَا أَعْظَمَ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَيْسَ الْأَعْظَمَ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ لَهُمْ.
قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَأْتِي بِعْدَهُمْ أَقَلَّ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ» " وَحَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» "، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ انْعِقَادَ جَمَاعَةِ الصَّلَاةِ بِهِمَا، وَقَوْلِهِ: " «إِيَّاكُمْ وَالشُّذُوذَ» ".
قُلْنَا: الشَّاذُّ هُوَ الْمُخَالِفُ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ لَا مَنْ خَالَفَ قَبْلَ الْمُوَافَقَةِ، وَقَوْلِهِ: " «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ عَنِ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» " أَرَادَ بِهِ الْحَثَّ عَلَى طَلَبِ الرَّفِيقِ فِي الطَّرِيقِ، وَلِهَذَا قَالَ " «وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» ".
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، بَلِ الْبَيْعَةُ بِمَحْضَرٍ مِنْ عَدْلَيْنِ كَافِيَةٌ.
كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْبَيْعَةِ إِنَّمَا تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ أَوْ طَرْءِ أَمْرٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُوَافَقَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِمَامَةِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ الْأَكْثَرِ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ، فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ الصَّادِرِ عَنِ الِاجْتِهَادِ مَعَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِقَوْلِ الْأُمَّةِ، وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَفَادَ خَبَرُهُ الْيَقِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ إِجْمَاعًا مُحْتَجًّا بِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ مُحْتَجًّا بِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ لَهُمْ ; لِأَنَّ خَبَرَ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ.
---------------
(١) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص ٢١٩.

الصفحة 238