كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

الْمَسْلَكُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً، وَكُلُّ شَرْطٍ أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِ الْمَشْرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْقِيقِهِ كَانَ بَاطِلًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ جَوَّزَ لِمَنْ حَدَّثَ مِنَ التَّابِعِينَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مُخَالَفَتَهُمْ، وَشَرَطَ فِي صِحَّةِ إِجْمَاعِهِمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ، وَإِذَا صَارَ التَّابِعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُحْدِثَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ.
وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُتَحَقِّقًا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ اخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ مَنْ أَدْرَكَ الْمُجْمِعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ لَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّابِعِيِّ فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ.
وَفَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ لِذَلِكَ إِمْكَانُ رُجُوعِ الْمُجْمِعِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ عَمَّا حَكَمُوا بِهِ أَوَّلًا لَا لِجَوَازِ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشْكَالُ يَكُونُ مُنْدَفِعًا.
وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ دُخُولِ التَّابِعِ لَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُوَ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ، وَاعْتِبَارَ مُوَافَقَةِ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْعَصْرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا عَصْرَ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشْكَالُ لَا يَكُونُ مُتَّجِهًا.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا اتَّفَقَ إِجْمَاعُ أُمَّةِ عَصْرٍ (١) مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ، فَهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَتَجِبُ عِصْمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ النُّصُوصِ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ.
هَذَا فِيمَا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ بِأَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ بِهِمَا، وَأَمَّا إِنْ حَكَمَ وَاحِدٌ بِحُكْمٍ وَانْتَشَرَ حُكْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ بَعْضِهِمُ
---------------
(١) لَعَلَّهُ: فِي عَصْرٍ.

الصفحة 257