كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

وَأَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ بِالِاجْتِهَادِ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: هَذَا حَدٌّ وَأَقَلُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ.
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَمِقْدَارِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَمِقْدَارِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَعَدَالَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُتَّبَعَةً لِمَا ثَبَتَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْجَوَازِ مَعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا مِنْ عَصْرٍ إِلَّا وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِيَاسِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ، وَقُوَى النَّاسِ وَأَفْهَامُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ عَادَةً، كَمَا يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ أَمْزِجَتِهِمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ; حَتَّى إِنَّ مُخَالِفَهُ يُبَدَّعُ وَيُفَسَّقُ وَالدَّلِيلُ الْمَظْنُونُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى ضِدِّهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ إِسْنَادَ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ وَعُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ، وَاسْتِنَادُ الْأَصْلِ وَمَا هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ إِلَى الْفَرْعِ وَمَا هُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ مُمْتَنِعٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَوِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ قِيَاسٍ لَحَرُمَتِ الْمُخَالَفَةُ الْجَائِزَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْوُقُوعِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْإِجْمَاعِ كَانَ عَنِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ نُصُوصٍ ظَهَرَتْ لِلْمُجْمِعِينَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَنَا وَذَلِكَ كَتَمَسُّكِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ،

الصفحة 265