كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

وَبِاسْتِثْنَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ (إِلَّا بِحَقِّهَا) مِنْ قَوْلِهِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ» " وَكَاسْتِدْلَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ بِفِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالُوا: أَيُّكُمْ يَطِيبُ نَفْسًا أَنْ يَتَقَدَّمَ قَدَمَيْنِ قَدَّمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا لِلِاكْتِفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِيَصِحَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَوُجُودُ الْخِلَافِ بَعْدَهُ فِي الْقِيَاسِ غَايَتُهُ الْمَنْعُ مِنْ وُقُوعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَيْفَ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَفِي أَسْبَابِ تَزْكِيَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقُوا عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَيْهِ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا ظَهَرَ وَعُدِمَ الْمَيْلُ وَالْهَوَى، فَلَا يَبْعُدُ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى الْحُكْمِ بِهِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ أَفْهَامِهِمْ وَجِدِّهِمْ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ كَمَا لَا يَتَعَذَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ عَدَالَتَهُ مَظْنُونَةٌ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَزْكِيَتِهِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ اتِّفَاقِ الْكَافَّةِ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ أَمْزِجَتِهِمْ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا وُجِدَ الدَّاعِي لَهُمْ عِنْدَ ظُهُورِ الْقِيَاسِ إِلَى الْحُكْمِ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَنِ الثَّالِثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اتَّفَقَتْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْقِيَاسِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَسْبِقُهُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ ظَنِّيًّا فَإِذًا اسْتِنَادُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ إِنَّمَا هُوَ إِلَى قَطْعِيٍّ لَا إِلَى ظَنِّيٍّ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، بِنَاءً عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ كَوْنِهِ ظَنِّيًّا، وَالْإِجْمَاعُ الْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ قَطْعِيٌّ فَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ يَكُونُ جَوَابًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

الصفحة 266