كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 1)

فَإِنْ قِيلَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ (١) لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» "، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ (٢) ، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ إِجْمَاعٌ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ هُوَ التَّيَمُّمُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ وَلَكِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مُوَافِقٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ (٣) مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ، وَمَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا سَمْعًا.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَبَيَانِهِ بِالْوُقُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْ يَكُونُ إِمَامًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُمْتَنِعًا لَمَا كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ مُصِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ (٤) .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ فَسَيَأْتِي تَأْوِيلُهُ كَيْفَ وَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْإِصَابَةِ نَظَرًا إِلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَوَابًا
---------------
(١) لَوْ قَالَ: اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَخْ. لَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهَا، وَلَكَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذُكِرَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يُنَاقَضْ مَعَ بَقِيَّةِ الْفِقْرَةِ الْأُولَى مِنَ الِاعْتِرَاضِ.
(٢) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص ٢٥٧.
(٣) إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَا أَنَّهُ.
(٤) سَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْمُخَطِّئَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُصَوِّبَةِ لِلْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

الصفحة 276