كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

فِي اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ إِذْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَّفَقًا، فكانوا كَذَلِكَ حَتَّى كَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَعَادَتْ لُغَاتُهُمْ إِلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِرُوا بِذَلِكَ عَلَى تَحَفُّظِ أَلْفَاظِهِ، فَلَمْ يَسَعْهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْرَءُوا بِخِلَافِهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ فَارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ، وَعَادَ مَا يُقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا أُبَيُّ إِنِّي أَقُرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقِيلَ لِي عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى ثَلَاثَةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تَخْلِطْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ". وَأَسْنَدَ ثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ «١»: وإذا ثبت هَذِهِ الرِّوَايَةُ يُرِيدُ حَدِيثَ أُبَيٍّ حُمِلَ عَلَى ان هذه كَانَ مُطْلَقًا ثُمَّ نُسِخَ، فَلَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ ان يبدلوا اسما الله تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُوَافِقُ مَعْنَاهُ أَوْ يُخَالِفُ. الْقَوْلُ الثَّانِي قَالَ قَوْمٌ: هِيَ سبع لغات في القران على لُغَاتِ الْعَرَبِ كُلِّهَا، يَمَنَهَا وَنِزَارَهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْهَلْ شَيْئًا مِنْهَا، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ سَبْعَةَ أَوْجُهٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ السَّبْعَ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا قَدْ قُرِئَ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" «٢». وقوله:" أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ" «٣» وذكر وُجُوهًا، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لَا كُلَّهُ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ أَبُو عبيد: وبعض الأحياء
---------------
(١). هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاضي أبو بكر الباقلاني.
(٢). آية ٦٠ سورة المائدة.
(٣). آية ١٢ سورة يوسف.

الصفحة 43