كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (اسم الجزء: 1)

امورا يتَوَقَّف حُصُولهَا مِنْهُم على حُصُول الاسباب الْمُقْتَضِيَة لَهَا وَلَا تحصل الا فِي دَار الِابْتِلَاء والامتحان فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يحب الصابرين وَيُحب الشَّاكِرِينَ وَيُحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا وَيُحب التوابين وَيُحب المتطهرين وَلَا ريب ان حُصُول هَذِه المحبوبات بِدُونِ اسبابها مُمْتَنع كامتناع حُصُول الْمَلْزُوم بِدُونِ لَازمه وَالله سُبْحَانَهُ أفرح بتوبة عَبده حِين يَتُوب اليه من الفاقد لراحلته الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فِي ارْض دوية مهلكة إِذا وجدهَا كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي انه قَالَ لله أَشد فَرحا بتوبة عَبده الْمُؤمن من رجل من فيارض دوية مهلكة مَعَه رَاحِلَته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقد ذهبت فطلبها حَتَّى أدْركهُ الْعَطش ثمَّ قَالَ ارْجع الى الْمَكَان الَّذِي كنت فِيهِ فأنام حَتَّى أَمُوت فَوضع رَأسه على ساعده ليَمُوت فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْده رَاحِلَته عَلَيْهَا زَاده وَطَعَامه وَشَرَابه فَالله اشد فَرحا بتوبة العَبْد الْمُؤمن من هَذَا براحلته وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله الْكَلَام على هَذَا الحَدِيث وَذكر سر هَذَا الْفَرح بتوبة العَبْد وَالْمَقْصُود ان هَذَا الْفَرح الْمَذْكُور إِنَّمَا يكون بعد التَّوْبَة من الذَّنب فالتوبة والذنب لَا زمَان لهَذَا الْفَرح وَلَا يُوجد الْمَلْزُوم بِدُونِ لَازمه وَإِذا كَانَ هَذَا الْفَرح الْمَذْكُور إِنَّمَا يحصل بِالتَّوْبَةِ المستلزمة للذنب فحصوله فِي دَار النَّعيم الَّتِي لَا ذَنْب فِيهَا وَلَا مُخَالفَة مُمْتَنع وَلما كَانَ هَذَا الْفَرح احب الى الرب سُبْحَانَهُ من عَدمه اقْتَضَت محبته لَهُ خلق الاسباب المفضية اليه ليترتب عَلَيْهَا الْمُسَبّب الَّذِي هُوَ مَحْبُوب لَهُ وَأَيْضًا فَإِن الله سُبْحَانَهُ جعل الْجنَّة دَار جَزَاء وثواب وَقسم منازلها بَين اهلها على قدر اعمالهم وعَلى هَذَا خلقهَا سُبْحَانَهُ لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحِكْمَة الَّتِي اقتضتها اسماؤه وَصِفَاته فان الْجنَّة دَرَجَات بَعْضهَا فَوق بعض وَبَين الدرجتين كَمَا بَين السَّمَاء والارض كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي انه قَالَ ان الْجنَّة مائَة دَرَجَة بَين كل دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَين السَّمَاء والارض وَحِكْمَة الرب سُبْحَانَهُ مقتضية لعمارة هَذِه الدَّرَجَات كلهَا وَإِنَّمَا تعمر وَيَقَع التَّفَاوُت فِيهَا بِحَسب الاعمال كَمَا قَالَ غير وَاحِد من السّلف ينجون من النَّار بِعَفْو الله ومغفرته ويدخلون الْجنَّة بفضله وَنعمته ومغفرته ويتقاسمون الْمنَازل بأعمالهم وعَلى هَذَا حمل غير وَاحِد مَا جَاءَ من إِثْبَات دُخُول الْجنَّة بالاعمال كَقَوْلِه تَعَالَى وَتلك الْجنَّة الَّتِي اورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَقَوله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قَالُوا وَأما نفي دخلوها بالاعمال كَمَا فِي قَوْله لن يدْخل الْجنَّة اُحْدُ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا انت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا انا فَالْمُرَاد بِهِ نفي اصل الدُّخُول واحسن من هَذَا ان يُقَال الْبَاء الْمُقْتَضِيَة للدخول غير الْبَاء الَّتِي نفى مَعهَا الدُّخُول فالمقتضية هِيَ بَاء السَّبَبِيَّة الدَّالَّة على ان الاعمال سَبَب للدخول مقتضية لَهُ كاقتضاء سَائِر الاسباب لمسبباتها وَالْبَاء الَّتِي نفى بهَا الدُّخُول هِيَ بَاء الْمُعَاوضَة والمقابلة الَّتِي فِي نَحْو قَوْلهم اشْتريت هَذَا بِهَذَا فَأخْبر النَّبِي ان دُخُول الْجنَّة لَيْسَ فِي مُقَابلَة عمل اُحْدُ وانه لَوْلَا تغمد الله سُبْحَانَهُ لعَبْدِهِ برحمته لما أدخلهُ الْجنَّة فَلَيْسَ عمل العَبْد وان تناهى

الصفحة 8