كتاب أحكام القرآن لبكر بن العلاء - ط جائزة دبي (اسم الجزء: 1)

وهذا كلام من لا يَعلم، وأما من مَنَّ اللَّه عليه بفهم ومعرفة، فإنه يعلم أن محل الهدي بمكة وفِجاجِها، ومنًى في أيام منى، والدليل على ذلك ما وصفنا في قصة الحديبية، وأن الحرم لو كان كله منحرًا لما كان هديهم {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، ولما خُصَّت مكة ومنًى بذلك، فقيل: "هذا المنحر" للموضع الذي نحر فيه عند المَرْوَة، "ومكة وفِجاجها منحر"، وقيل: بمِنًى: "هذا المنحر"، للموضع الذي نحر فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند العقبة، "ومنًى وفجاجها منحر"، فخُصَّت مكة ومِنًى بذلك، وكلاهما من الحرم، وبينهما مسافة.
فلو كان الحرم كله منحرًا لقيل: هذا المنحر، والحرم كله منحر، فلما وقع الخصوص ببعض الحرم، عُلم أن سائر الحرم خارج (¬١) من ذلك، ومن لم يعلم هذا، لم يعلم خاصًا من عام.
وقال اللَّه تبارك وتعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥]، فأعلمنا عز وجل أن محل الهدايا بلوغ الكعبة، وعلمنا بأن بلوغها بلوغ حضرتها، ليس أن يدخلَها فينحرَ فيها، ولا في المسجد، ولكن بحضرة ذلك، فكان المنحر عند المَرْوة، في الموضع الذي يفرغ فيه المعتمر من طوافه وسعيه، ثم وسِّع عليهم بأن جعلت مكة وفجاجها منحرًا، لأنه أرفق بهم، إذ يضيق عليهم أن يكون منحرهم كلهم في موضع واحد، فجعل حكم الفدية كلها حكمًا واحدًا.
وكذلك أمر مِنًى وُسِّع عليهم، لأن المنحر عند العقبة حين يرمي ويحِل، ألا ترى أن المحرم لو بات لياليَ مِنًى في بعض الحرم سوى مِنًى، لما جاز له ذلك؟ ألا ترى أن المكِّيَّ لو خرج من بيته يريد سفرًا، لما جاز له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من مكة كلِّها، ثم يقصر إذا خرج عنها من قبل أن يخرج من الحرم.
---------------
(¬١) في الأصل: خارجًا.

الصفحة 161