كتاب موسوعة التفسير المأثور (اسم الجزء: 1)

الحفظ تفاوت بسبب مقدار الحاجة إليه، ذلك أن كثيرًا مما يحتاج إليه المتأخرون عن أزمنة الرواية ويرونه بالغ الأهمية لم تكن حاجة الناس إليه ماسة في أزمنة الرواية الأولى؛ بل كان بعضه حاصلًا لديهم بالسليقة وبعضه حاصلًا بالاشتهار في واقعهم وزمانهم لتلبسهم بشهوده ومشاهدته أو قربهم من زمان ومكان وقوعه، فأغناهم حصوله وشهرته عن المبالغة في طلبه وتتبعه، والتدقيق في حفظه وضبطه كمبالغتهم وتدقيقهم فيما تمس حاجتهم إليه، بل حاجة عموم المكلفين في جميع الأزمنة إلى معرفته وتعلمه من أصول الدين وأصول الأحكام، فانصرفت كثير من الجهود في الأزمنة الأولى إلى حفظ ما مسَّت الحاجة إلى روايته ونقله، واشتغل جُلُّ الثقات وكبار الحفاظ بذلك، ولك أن تتأمل هذا في أبواب السير والمغازي والتفسير مثلًا، وكيف أن كثيرًا من كبار المحدِّثين وأئمة الرواية انعدمت الرواية عنهم في هذه الأبواب أو قلّت مقارنة بمروياتهم الكثيرة في أبواب أخرى.
فمن أمثلة ما أغنت شهرته وذيوعه عن التدقيق فيه والمبالغة في تمييز صوابه من خطأه: المغازي والسِّيَر؛ فهي مع ما تحمله من عوامل الذيوع والانتشار في ذاتها باعتبارها القصصي = فقد كانت موطنًا للفخر والاعتزاز، ينقلها العالم للجاهل والصغير للكبير حتى بلغ الأمر أن قال علي بن الحسين: "كنا نعلم مغازي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما نعلم السورة من القرآن" (¬١).
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وسراياه ويعدها علينا؛ ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها" (¬٢). وهو ما أدى إلى انشغال جُلّ العلماء والحفاظ والرواة بالتدقيق في غيرها لندرة الخطأ المتوقع من جانبها، وللقدرة على تمييزه بعد وقوعه لكثرة شيوعه واشتهاره.
ومن أمثلة ما كان حاصلًا عندهم بالسَّجِيّة والطبيعة فلم تكن الحاجة ماسة له ولم يكن الخطأ مخوفًا من قبله: تفسير القرآن فيما كان بيانه حاصلًا بلغة العرب؛ لأن الأصل أن القرآن مفهوم لهم بمجرد سماعهم له إلا ما كان فيه بيان خاص من الشارع، وقد بَيَّنَ هذا البيهقي بقوله: "وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم؛ لأن ما فسروا به ألفاظه تشهد لهم به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب
_________
(¬١) المصدر السابق.
(¬٢) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ٢/ ١٩٥.

الصفحة 533