كتاب حاشية البجيرمي على الخطيب = تحفة الحبيب على شرح الخطيب (اسم الجزء: 1)

وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَلِ الْكَعْبَةِ» أَيْ وَجْهَهَا. «وَقَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةُ» مَعَ خَبَرِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ إجْمَاعًا وَالْفَرْضُ فِي الْقِبْلَةِ إصَابَةُ الْعَيْنِ فِي الْقُرْبِ يَقِينًا وَفِي الْبُعْدِ ظَنًّا فَلَا تَكْفِي إصَابَةُ الْجِهَةِ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ بِأَنْ وَقَفَ بِطَرَفِهَا وَخَرَجَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقْبِلًا لَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ إذَا بَعُدُوا عَنْهَا حَاذَوْهَا وَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ طَالَ الصَّفُّ؛ لِأَنَّ صَغِيرَ الْحَجْمِ كُلَّمَا زَادَ بُعْدُهُ زَادَتْ مُحَاذَاتُهُ كَغَرَضِ الرُّمَاةِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحَصَّلُ مَعَ الِانْحِرَافِ وَلَوْ اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ صَحَّ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ لِلْبِنَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلرُّكْنِ، وَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْوَاحِدُ اُذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ ... إنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
قَوْلُهُ: (إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ) أَيْ أَرَدْت الْقِيَامَ إلَيْهَا. قَوْلُهُ: (وَرُوِيَ إلَخْ) أَيْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ، وَأَتَى بِهَذَا لِيُبَيِّنْ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ عَامٌّ ز ي، فَيَكُونُ مِنْ إطْلَاقِ الْكُلِّ إرَادَةَ الْجُزْءِ وَقَوْلُهُ مَعَ خَبَرِ صَلُّوا إلَخْ. أَتَى بِهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ الْقِبْلَةُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ لِعَدَمِ وُجُودِ صِيغَةِ أَمْرٍ فِيهِ، وَأَيْضًا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ كَمَا ذَكَرَهُ ع ش عَلَى الْمَنْهَجِ.
قَوْلُهُ: (قُبُلِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَعًا وَيَجُوزُ إسْكَانُ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مُقَابِلُهَا ق ل.
قَوْلُهُ: (فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ إجْمَاعًا) فِيهِ أَنَّ إجْمَاعًا الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّوَجُّهَ لِلْعَيْنِ، بَلْ اكْتَفَى بِالتَّوَجُّهِ لِلْجِهَةِ وَهُوَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ عِنْدَنَا حَكَاهُ فِي التَّنْبِيهِ وَالضَّمِيرُ فِي بِدُونِهِ رَاجِعٌ لِلتَّوَجُّهِ لِلْعَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ فِي الْكَلَامِ شِبْهَ اسْتِخْدَامٍ فَذَكَرَ التَّوَجُّهَ أَوَّلًا بِمَعْنَى، وَهُوَ الْعَيْنُ، وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرَ فِي بِدُونِهِ بِمَعْنًى آخَرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَوَجُّهًا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلْجِهَةِ، وَحِينَئِذٍ فَصَحَّ قَوْلُهُ إجْمَاعًا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ بِإِجْمَاعِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْجِهَةِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ: بِأَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ إجْمَاعًا أَيْ مَذْهَبِيًّا وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ لَنَا قَوْلًا حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ أَنَّهُ يَكْفِي اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ.
قَوْلُهُ: (وَالْفَرْضُ) بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ. قَوْلُهُ: (يَقِينًا) أَيْ بِرُؤْيَةٍ أَوْ مَسٍّ ق ل. أَوْ لِعَرْصَتِهَا عِنْدَ انْهِدَامِهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبَيْتِ فِي حَقِّ الْخَارِجِ عَنْهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى أَعْلَى مِنْهُ كَجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ. اهـ. ز ي.
وَهُمَا أَعْنِي قَوْلَهُ يَقِينًا وَظَنَّا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِيَّةِ. قَوْلُهُ: (فَلَوْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ) أَيْ حَرَمِهَا أَوْ هَوَائِهَا ق ل.
قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الطَّرَفِ.
قَوْلُهُ: (بِبَعْضِهِ) أَيْ بِبَعْضِ بَدَنِهِ.
قَوْلُهُ: (بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) أَيْ إنْ وَقَعَ فِي أَثْنَائِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي ابْتِدَائِهَا، فَلَا تَنْعَقِدُ فَمُرَادُهُ بِالْبُطْلَانِ مَا يَشْمَلُ عَدَمَ الِانْعِقَادِ كَمَا فِي اج.
قَوْلُهُ: (بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ) وَلَوْ بِأُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا شَكَّ إلَخْ) مَفْهُومُ قَوْلِهِ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ أَمَّا إذَا بَعُدُوا.
قَوْلُهُ: (حَاذَوْهَا) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (إنْ طَالَ الصَّفُّ جِدًّا) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا امْتَدَّ الصَّفُّ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، لَكِنْ مَعَ انْحِرَافِ مَنْ بِطَرَفَيْهِ، أَمَّا إذَا بَعُدَ وَلَوْ كَثِيرًا وَلَمْ يَبْلُغْ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ قَدْرُ سَمْتِهَا أَيْ: الْكَعْبَةِ مِرَارًا مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ وَمِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ وَلَا يَنْحَرِفُ اهـ هَذَا مَا انْحَطَّ عَلَيْهِ كَلَامُ م ر وَمُتَابَعِيهِ اهـ اج.
قَوْلُهُ: (وَاسْتُشْكِلَ) أَيْ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ مَعَ الْبُعْدِ وَإِنْ طَالَ الصَّفُّ، وَقَوْلُهُ: (بِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ الْمُحَاذَاةَ الْمَذْكُورَةَ وَالْمُسْتَشْكِلُ هُوَ الْفَارِقِيُّ، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ الْخَارِجِينَ عَنْ سَمْتِهَا لَا يَكُونُونَ مُحَاذِينَ لَهَا إلَّا مَعَ الِانْحِرَافِ، فَإِذَا لَمْ يَنْحَرِفُوا لَمْ يَكُونُوا مُحَاذِينَ لَهَا فَمُقْتَضَاهُ بُطْلَانُ صَلَاتِهِمْ مَعَ حُكْمِهِمْ بِصِحَّتِهَا، وَالْإِشْكَالُ جَارٍ فِي الْخَارِجِينَ عَنْ سَمْتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْتَدُّوا إلَى الْمَشْرِقِ خِلَافًا لِلْأُجْهُورِيِّ. وَأَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: بِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ نَظِيرُ مَا يَأْتِي فِيمَا لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَرْبَعِ جِهَاتٍ، وَلَا بُطْلَانَ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْبُطْلِ م ر. وَالْمُرَادُ بِالْمُخْطِئِ غَيْرُ الْمُحَاذِي لَسَمْتِهَا. وَقَوْلُهُ: غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُصَلِّينَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَظُنُّ أَنَّهُ مُحَاذٍ لَهَا لِعَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ لَهَا وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ مَكَّةَ وَسَطَ الْبِلَادِ

الصفحة 459