كتاب تاريخ ابن خلدون (اسم الجزء: 1)

هذا وقد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار.
ثمّ إنّ أكثر التّواريخ لهؤلاء عامّة المناهج والمسالك، لعموم الدّولتين صدر الإسلام [1] في الآفاق والممالك. وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدّول والأمم، والأمر العمم [2] . كالمسعوديّ ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التّقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشّأو البعيد، فقيّد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدّولة الأمويّة بها وابن الرّفيق مؤرّخ إفريقية والدّولة الّتي كانت بالقيروان.
ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون [3] الأخبار عن الدّول،
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: لعموم صدر الإسلام والدولتين (أي دولة بني أمية والدولة العباسية) .
[2] امر عمم: تام، عام (لسان العرب) .
[3] بمعنى يجمعون.

الصفحة 7