كتاب تاريخ ابن خلدون (اسم الجزء: 1)

وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها [1] ، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم [2] صحفهم عن بيانها، ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدّولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السّبب الّذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى النّاظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدّول ومراتبها، مفتّشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كلّه في مقدّمة الكتاب. ثمّ جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيّامهم بحروف الغبار [3] ، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل، وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعدّ لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرّخين والعوائد.
ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم [4] ، فأنشأت في التّاريخ كتابا. رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجابا:
وفصّلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأوّليّة الدّول والعمران عللا وأسبابا. وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمّروا المغرب في هذه الأعصار، وملئوا
__________
[1] أي قديمها وحديثها.
[2] اسعجم الكلام: أصبح مبهما.
[3] اسم العلامات تدل على الأعداد (قاموس) .
[4] السوم: طلب الشراء (لسان العرب) .

الصفحة 8