كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 1)

13…
وأنا لا استبعد أن يكون قول رسول الله لهؤلاء بأن لا يلقحوا، هو نوع من الوحي لإظهار الصفة البشرية في رسول الله، أو لإظهار الجانب الإنساني فيه، وأنه بشر من البشر أوحى الله إليه بالتشريع، وأن التشريع لم يأت ليعلم الناس كيف يصنعون معايشهم، وإنما جاء لينظم هذه المعايش عندما تتصل بشؤون المجتمع.
فالمعايش لها شقان: الأول: كيفية الصنعة، وقد ترك المشرع هذا الجانب للناس.
والثاني: كيف يكون التعامل بين الناس في أمور المعايش.
وقد نال هذا الجانب عناية كبيرة من التشريع.
فالتشريع لم يدلنا على كيفية زراعة الأرض، وإنما دلنا على كيفية المزارعة التي يشترك فيها اثنان، ولم يدلنا على كيفية صنع القماش أو الحذاء ولكنه دلنا على كيفية التبايع في الأسواق.
ولم يدلنا على كيفية صنع الطعام، ولكنه دلنا على الحرام والحرام منه، ووجهنا إلى السنة في الطعام.
ولهذا، ليس كل ما كان من أمر المعايش، كان من أفعال رسول الله البشرية وأقواله.
وكيف نقول ذلك، ونحن نجد أكثر من نصف أبواب الفقه في المعاملات، وهل المعاملات إلا من أمور المعايش؟ وقد جاء في القرآن كثير من الآيات التي تنظم شؤون المعاملات التي هي من معايش الناس: فقد جاء تحريم الربا في القرآن، وجاء الأمر بكتابة الدّين في القرآن، وجاء توزيع الميراث في القرآن، وجاء في القرآن تقسيم الوقت بين العبادة، وكسب العيش (فإذا فرغت فانصب)، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله .. ) وكما نظم الشرع المعاملات المالية والمعاشية، نظم أيضاً العلاقات الاجتماعية التي تخص البشر، فذكر العهود والمواثيق، والإصلاح بين فئتين متخاصمتين من المؤمنين ودعا إلى التعاون بين المسلمين في أمور الدنيا، فأمر بالزكاة والصدقة، وأمر برعاية حق الجار .. ونظم العلائق الزوجية .. فهذه كلها من أمور الدنيا المعاشية ولم يتركها الإسلام هملاً دون تنظيم.
فلا يصح أن تتخذ من قصة تأبير النخل شاهداً لتقسيم السيرة النبوية إلى قسم نبوي (لاينطق عن الهوى) وقسم دنيوي، يقع فيه ما يقع للناس من الصحة…

الصفحة 13