كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 1)

35…ومدائن صالح والعلا، وغيرها قد تراجعت إلى الوراء، بعد أن كانت السكة قد بدأت تعيد إليها غابر عمارتها.
ولعل التخوف من عمران الحجاز كان من جملة الأسباب التي وحدت دولتي انكلترة وفرنسة على المعارضة في تسليم السكة الحديدية للمسلمين.
فإن هاتين الدولتين اللتين تسلطا على نحو (150) مليون مسلم تكرهان أن يكون لهم ملجأ تهوي إليه أفئدتهم ويكون معموراً وتتوافر فيه أسباب الراحة، وينتهي الأمر بازدحام السكان فيه.
يقول شكيب أرسلان ((ولا سيما الحجاز، ولا سيما الحجاز، ولا سيما الحجاز)) كررها ثلاثاً.
أقول: إذا كان الأعداء قد تنغصوا من وجود خط السكة الحديدية الواصل إلى المدينة الحجازية، فإنهم أكثر تنغصاً إذا وجدوا أهل الحجاز المقدس يستثمرون خيرات أرضهم، ويستغنون بخيراتها عن غيرهم، فيزدحم المسلمون في جوار الحرمين ينهلون من أرض الوحي.
ولذلك يقول شكيب أرسلان واصفاً قدرة المدينة وحدها على استيعاب السكان: ((ولما كنت في المدينة المنورة قبل الحرب العامة، وتجولت في عواليها والبقاع التي تليها، وشاهدت زكاء تلك الأرضيات وسمعت خرير هاتيك المياه قدرت أن البلدة الطيبة وحدها، إذاكانت الحجاز الحديدية متصلة بها، وبقيت المهاجرة إليها من الآفاق، قد تحمل نصف مليون نسمة، ولا يتكاءدها أمر معيشتهم)).
وهو يريد: أن أرض المدينة فيها من الخيرات ما يكفي لإعاشة هذا العدد من الناس.
وقد شاعت أفكار عن ارض الحجاز بعامة، تقول: إن الحجاز مجدب كثير الحجار والحرار، قليل الرياض والغياض.
وهذا كله من الكلام المرسل بدون تحقيق، يقوله من لا يعرف الحجاز، ولا يعرف شيئاً عن أرض الحجاز.
ولم يسلم من هذا الجهل كبار الشعراء والأدباء في زماننا، ولذلك نجد أحمد شوقي أمير الشعراء، يجعل الحجاز مثلاً للوطن المجدب الذي سكنه أهله راضين صابرين، لأنه مسقط الرأس فقط، على حد قول الشاعر:…

الصفحة 35