كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 1)

453…
والحرب والسلم، انما كان نتاج عبقريات تعيش في المدينة، وتتنفس من هوائها، وتعيش في اجوائها. وفي المدينة كان عباقرة العلم والفقه: في عهد الصحابة نذكر ابا هريرة انموذجاً للحفظ وصفاء الذهن، وفي عهد التابعين، ظهر انموذج الفقهاء السبعة الذين حفظوا الرسالة السماوية، وفهموها، وانتقل منهم الفقه والاجتهاد الى بقاع المعمورة .. وفي الطبقة الثانية من التابعين نبغ الامام ابن شهاب الزهري، الذي فاق العقول الآلية الحديثة في دقة حفظه وفطنته ثم يأتي الامام مالك الذي ملأ الدنيا فقهاً وعلماً، وتابع سيرك في القرون التالية وانبش في تاريخ المدينة، فانك واجد عبقريات تفوق اهل عصرها ...
.. إذا لم يكن الانتاج البشري مقياساً لحسن المناخ ـ بعد توفيق الله تعالى ـ ما المقياس اذن؟ ...
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أقبل على المدينة ((هذه طابة)) ومن معانيها طيب العيش، وطيب الهواء.
وطيب المناخ .. والرسول صادق فيما اخبر عنه وفيما احس به، ونحن نقول بقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فالمدينة، ومنها العقيق، طابة، وطيبة، ومحبوبة ومحمودة، والطيوب تعبق في انحائها، تشمها في غدوك ورواحك .. وجاء في الأحاديث الضعيفة: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب الى العقيق، ثم رجع فقال: ((يا عائشة، جئنا من هذا العقيق، فما الين موطئه واعذب ماءه)) قال: فقلت: يا رسول الله، افلا ننتقل اليه، قال: ((كيف وقد ابتنى الناس؟)) [السمهودي عن ابن زبالة 1038]. واذا لم يصح الحديث: سنداً، فانه يصح متناً، بمعنى ان الحديث الذي يكون موضوعاً، يعبر عن حقيقة الشيء الذي يتحدث عنه، واذا لم يصح هذا الحديث، لأن ابن زبالة راويه، فانه يعبر عما يراه الناس في وادي العقيق من لين العيش وطيب الهواء.
ربما لا يرى آخرون ما رأيت، ولا يحسون بما احسست، ولكنني اكتب للمؤمنين المحبين وكل من زار المدينة محباً، فانه يشم طيوبها قبل ان يدخل حرمها، فاذا وصل اليها أعجبه العيش فيها واحب طول الاقامة بها .. نعم، انه…

الصفحة 453