كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن (اسم الجزء: 1)

ومنهم من اكتفى بمجرد الدراية وجرد نظره إلى مقتضى اللغة العربية بصحيح العناية وهم الأكثرون، ومنهم من جمع بين الأمرين، وسلك المسلكين، وقليل ما هم وقليل من عبادي الشكور.
ومن أحسن التفاسير جمعاً بين الرواية والدراية فيما علمت تفسير الإمام الحافظ القاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليمني المتوفى سنة خمسين ومائتين وألف الهجرية، وهو تفسير كبير بالقول في مجلدات أربع.
وطالما يدور في خلدي أن أحرر في التفسير كتاباً يحتوي على أمرين، ويجمع طريقين على الوجه المعتبر في الورد والصدر، غير مشوب بشيء من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر، وكنت أنتهز له الفرصة في البلاد والقرى، وأقدم رجلاً وأؤخر أخرى لصعوبة المرام، وعزة المقام، فأين الحضيض من الذرى والثريا من الثرى، فحال بيني وبين ما كنت أخال، تراكم المهمات وتزاحم الأشغال وابتليت بتدبير مصالح العباد في مدينة بهوبال، وانصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال، وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف، والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف، والأيام تحول وتحجز، والليالي تعد ولا تنجز، حتى سألني جماعة من أهل العلم ممن يتحرى إتباع السنة والكتاب، ويجتنب الإبتداع في كل باب، وألحوا علي وأظهروا الفقر إلي ولم يسعني إلا إسعاف ما أمِلوه، وإنجاح ما سألوه، فأجبتهم معتمداً على فضل الله وتيسيره ممتثلاً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري ويرفعه: " إن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً " (¬1) ومقتدياً بالسلف الماضين في تدوين علوم الدين إبقاء على الخلق وإيفاء للحق.
وليس على ما جمعوه وصنفوه مزيد، ولكن لا بد في كل زمان من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجد والجهد، إيقاظاً للنائمين، وتحريضاً للمتثبطين، فحررت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوه واستمنحوه كتاباً في أيسر زمان وأحسن تقدير، متوسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل،
¬_________
(¬1) الترمذي كتاب العلم باب 4.

الصفحة 20