كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (اسم الجزء: 1)

ولسان الدّين بن الْخَطِيب هُوَ الَّذِي ألف صَاحب التَّرْجَمَة كِتَابه عرف الطّيب فِي أخباره وَمن غَرِيب خَبره وَالْأَيَّام ترى الْغَرِيب من أفعالها وَتسمع العجيب من أحوالها أَنه رَحل من غرناطة وَدخل إِلَى مَدِينَة فاس فَبَالغ سلطانها فِي إكرامه فَتمكن مِنْهُ أعداؤه بالأندلس وأثبتوا عَلَيْهِ كَلِمَات منسوبة إِلَى الزندقة تكلم بهَا فسجل القَاضِي بِثُبُوت زندقته وَحكم بإراقة دَمه وَأرْسل بِهِ إِلَى سُلْطَان فاس فسجن بهَا وَدخل إِلَيْهِ بعض الأوغاد السجْن وَقَتله خنقاً وَأخذ جوَار مِنْهُ فدفنت فَأصْبح غدْوَة دَفنه طريحاً على شَفير قَبره وَقد ألقيت عَلَيْهِ الأحطاب وأضرمت فِيهَا النَّار فَاحْتَرَقَ شعره واسودت بَشرته ثمَّ أُعِيد إِلَى حفرته وَكَانَ ذَلِك سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَمن أعجب مَا وَقع لَهُ أَنه كَانَ نظم هَذَا الْمَقْطُوع وَهُوَ
(قف لترى مغرب شمس الضُّحَى ... بَين صَلَاة الْعَصْر وَالْمغْرب)

(واسترحم الله قَتِيلا بهَا ... كَانَ إِمَام الْعَصْر فِي الْمغرب)
فاتفق أَنه قتل بَين هَاتين الصَّلَاتَيْنِ فَالْمُرَاد من شمس الضُّحَى نَفسه وَقَوله واسترحم الله قَتِيلا بهَا مَعْنَاهُ اسْأَل الله رَحْمَة للقتيل بشمس الضُّحَى فضمير بهَا عَائِد إِلَى شمس الضُّحَى على سَبِيل الِاسْتِخْدَام وكلا الْمَعْنيين مجازي وَقد أطلنا الْكَلَام حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمقَام فلنرجع إِلَى الْغَرَض من ذكر بَقِيَّة خبر الْمقري فَنَقُول وَكَانَت إِقَامَته بِدِمَشْق دون الْأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ رَحل مِنْهَا فِي خَامِس شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ إِلَى مصر وَعَاد إِلَى دمشق مرّة ثَانِيَة فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة اربعين وَحصل لَهُ من الْإِكْرَام مَا صَحِلَ فِي قَدمته الأولى وَحين فَارقهَا أنْشد قَوْله
(إِن شام قلبِي عَنْك بارق سلوة ... يَا شام كنت كمن يخون ويغدر)

(كم راحل عَنْهَا لفرط ضَرُورَة ... وعَلى الْقَرار بغَيْرهَا لَا يقدر)

(متصاعدا لزفرات مكلوم الحشا ... والدمع من أجفانه يتحدر)
وَدخل مصر وَاسْتقر بهَا مُدَّة يسيرَة ثمَّ طلق زَوجته الوفائية وَأَرَادَ الْعود إِلَى دمشق للتوطن بهَا ففاجأه الْحمام قبل نيل المرام وَكَانَت وَفَاته فِي جمادي الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين وَقَالَ الأديب إِبْرَاهِيم الأكرمي فِي تَارِيخ وَفَاته
(قد ختم الْفضل بِهِ ... فأرخوه خَاتم)
والمقري بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الْقَاف وَآخِرهَا رَاء مُهْملَة وَقيل بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف لُغَتَانِ أشهرهما الأولى نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى تلمسان وإليها نِسْبَة آبَائِهِ
أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان القَاضِي شهَاب الدّين بن نَاصِر الدّين الأسطواني الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب كَانَ كَاتبا بارعاً تَامّ الْمعرفَة حسن الْخط وافر الضَّبْط قَرَأَ وَحصل فِي مباديه ثمَّ صَار كَاتبا للصكوك بالمحكمة الْكُبْرَى وَبعد مُدَّة نقل إِلَى الْبَاب وَصَارَ رَئِيس كتابها وانحصرت فِيهِ أمورها وَكَانَ يُرَاجع فِي المهام وَهُوَ فِي حد ذَاته من المتفوقين فِي صَنعته بري الساحة مِمَّا يدنسه كَامِل الْعرض حسن السمت وَخَلفه ابْنه حسن وَكَانَ على سمته وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْبَيْت فِي دمشق مَعْرُوف بالرؤساء الأجلاء وَلَهُم قدم ووجاهة وَاجْتنَاب للمكاره وَكَانَت وِلَادَته سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي عشرى الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الملقب شهَاب الدّين بن شمس الدّين بن نور الدّين الْمَعْرُوف بالغنيمي الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ الإِمَام الْعَلامَة الْحجَّة خَاتِمَة الْمُحَقِّقين الْمشَار إِلَيْهِم بِالنّظرِ الصائب ولطائف التَّحْرِير ودقة النّظر وَهُوَ أجل الشُّيُوخ الَّذين انفردوا فِي عصرهم فِي علم الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وتبحروا فِي الْعُلُوم الدقيقة والفنون العويصة حَتَّى استخرجوها بِالنّظرِ الدَّقِيق والفكر الغامض وَكَانَ أَولا شافعيا حضر الجلة من مَشَايِخ الشَّافِعِيَّة وأتقن الْمَذْهَب ودرس فِيهِ ثمَّ إِنَّه لما صَار إِلَى الْبِلَاد الرومية وَأخذ بعض التداريس الْحَنَفِيَّة وَكَانَ ذَلِك بِالْمَدْرَسَةِ الأشرفية الَّتِي بصحراء مصر صَار حنفيا قَالَ مَدين القوصوني وَمِمَّا كتب لنا بِخَطِّهِ بعد الطّلب وَأما تَارِيخ مولدِي فَلَا أتحققه لَكِن أذكر مَا فِيهِ تقريب لَهُ وَهُوَ أَنِّي أدْركْت قتل مَحْمُود باشا وَكنت إِذْ ذَاك صَغِير بالمكتب أتهجى وَلما شاع الْخَبَر بقتْله جَاءَنِي عمي أَبُو بكر وحملني على كتفه وَذهب بِي إِلَى الْبَيْت خشيَة عَليّ وَلَا يخفى أَن تَارِيخ قَتله بالجمل عظه بالظاء المشالة وَأما مشايخي فهم شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وعارف الْوَقْت سَيِّدي مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي حَضرته فِي غَالب الشفا للْقَاضِي عِيَاض بِقِرَاءَة الشَّيْخ الْفَاضِل صفي الدّين الْغَزِّي عَلَيْهِ وَحين خَتمه استجاز فَقَالَ أجزتم رَضِي الله عَنْكُم لمن قَرَأَهُ أَو سَمعه أَو شَيْئا مِنْهُ أَن يرويهِ وَجَمِيع مَا يجوز لكم وعنكم رِوَايَته فَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور نعم وَأهل الْعَصْر وحضرته أَيْضا فِي الشمايل ودرس التَّفْسِير والتصوف وَغير ذَلِك وَمِنْهُم شيخ الْإِسْلَام نجم الدّين الغيطي بِقِرَاءَة الشَّيْخ سَالم السنهوري الْمَالِكِي وَغَيره وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا مَشْغُولًا

الصفحة 311