كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (اسم الجزء: 1)
القسطنطيني المولد أحد وزراء الدولة العثمانية بل أوحدهم الَّذِي عزت بِهِ السلطنة وافتخرت الدولة وَكَانَ فِي وقته من مفاخره السامية وأفراده المتعالية وَبِه ظهر رونق الزَّمن وَعلا قدر الْفضل وَكَانَ عصره إِلَى أواسط مدَّته أحسن العصور وقته أَنْضَرُ الْأَوْقَات وَلم يكن فِي الوزراء من يحفظ أَمر الدّين وقانون الشَّرِيعَة مثله صعباً شَدِيدا فِي أُمُور الشَّرْع سهلاً فِي أُمُور الدُّنْيَا وَكَانَ حاذقاً مُدبر للْملك قَائِما بضبطه وَملك من نفائس الْكتب وعجائب الذَّخَائِر مَا لَا يدْخل تَحت الْحصْر وَلَا يضْبط بالاحصاء ولد بقسطنطينية وَنَشَأ بهَا واعتنى أَبوهُ بتهذيبه وأقرأه الْعُلُوم حَتَّى مهر وسمت همته نَحْو معالي الْأُمُور وسلك فِي بداية أمره طَرِيق المدرسين ثمَّ عدل إِلَى طَرِيق وَالِده فَتَوَلّى وَأَبوهُ فِي الصدارة الْعُظْمَى ولَايَة أَرض روم ايلي فظهرت كِفَايَته وحمدت طَرِيقَته ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى حُكُومَة الشَّام وأعطيها برتبة الوزارة وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وقدمها وَكَانَت أمورها مختلة النظام فأصلها وتقيد فِي أُمُور الْأَوْقَاف وأزال مَا بهَا من محدثات الْوَظَائِف وَغَيرهَا وَركب على أَوْلَاد معن وَبني شهَاب وَأقَام بالبقاع العزيزي أَيَّامًا حَتَّى أزالهم عَن بِلَادهمْ وقمع أهل الْفِتَن وَكَانَ قبل وَطْأَة قدمه دمشق ولغت بهَا أَيدي الْقَحْط حَتَّى عَمها وَبَلغت غرارة الْحِنْطَة فِي الثّمن إِلَى ثَمَانِينَ قرشا فنفع النَّاس فِي جلب الحبوبات من مصر وَأمر هُوَ بالبقاع بعمارة قاعة معظمة دَاخل درا الْإِمَارَة بِدِمَشْق فبنيت على أسلوب عَجِيب وَوضع غَرِيب ثمَّ طلب من الْبِقَاع إِلَى الرّوم فَسَار بالسرعة وعزل عَن حُكُومَة دمشق وجاءه أَمر حُكُومَة حلب وَهُوَ ذَاهِب فِي الطَّرِيق وَلم يدخلهَا وَبعد وُصُوله إِلَى قسطنطينية صَار قَائِما مقَام أَبِيه فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان إِذْ ذَاك بأدرنة وَأقَام أَيَّامًا قَليلَة ثمَّ طلب إِلَى أدرنة وَكَانَ وَالِده قد ابتدأه الْمَرَض فَلَمَّا وَصلهَا صَار قَائِما مقَامه فِي حَيَاته وَبعد أَيَّام قَليلَة توفّي وَالِده فَتَوَلّى مَكَانَهُ وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وأرخ بَعضهم تَوليته بقوله دولته نعْمَة الْإِلَه وسلك طَرِيقا فِي وزارته لم يسْبقهُ إِلَيْهَا أحد وَبلغ من الْأَحْكَام ونفوذ القَوْل مبلغا لَيْسَ فِيهِ مستزاد وَلم يبْق للنَّاس سوى التَّمَسُّك بعنايته ومراعاة حَاشِيَته وَكَانَ صائب الرَّأْي كَامِل الفراسة وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهِ من الفطنة أَنه جَاءَهُ يَوْمًا شخص بتوقيع فتفرس فِيهِ أَنه مَصْنُوع فَنَاوَلَهُ لأحد جماعته وَأمره بحفظه وَمضى على ذَلِك سِتّ سنوات فَجَاءَهُ يَوْمًا شخص آخر برقعة فَلَمَّا رَآهَا طلب التوقيع فجيء بِهِ فقابله على الرقعة ثمَّ سَأَلَ صَاحبهَا عَن كاتبها
الصفحة 353