كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 1)

الحديثين الكريمين تركهُ تعذيبَ ذي الشيبة وتخييبُ العبد من عطائه بترك مَنْ يتركهما حياءً كذلك إذا نُفي عنه تعالى في المواد الخاصة كما في هذه الآية الشريفة وفي قوله تعالى {والله لاَ يستحيي مِنَ الحق} يراد به سلبُ ذلك التركِ الخاصِّ المضاهي لترك المستحي عنه لاسلب وصفِ الحياء عنه تعالى رأساً كما في قولك إن الله لا يوصف بالحياء لأن تخصيصَ السلب ببعض الموادِّ يوهم كونَ الإيجاب من شأنه تعالى في الجملة فالمراد ههنا عدمُ ترك ضربِ المثل المماثل لترك من يستحي مِنْ ضَرْبه وفيه رمز إلى تعاضُد الدواعي إلى ضربه وتآخُذ البواعث إليه إذ الاستحياءُ إنما يُتصور في الأفعال المقبولة للنفس المرضية عندها ويجوز أن يكون ورودُه على طريقة المشاكلة فإنهم كانوا يقولون أما يستحي ربُّ محمدٍ أن يضرِب مثلاً بالأشياء المُحَقّرة كما في قول من قال
مَنْ مبلغٌ أفناءَ يعرُبَ كلَّها ... أني بنيتُ الجارَ قبل المنزل
وضرب المثل استعمالُه في مضرِبه وتطبيقُه به لا صنعُه وإنشاؤه في نفسه وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرةِ في مواردها ضرباً لها دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها لفقدان الإنشاء هناك والأمثالُ الواردة في التنزيل وإن كان استعالها في مضاربها عينَ إنشائها في أنفسها لكن التعبيرَ عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار بل بالاعتبار الأولِ قطعا وهوما وهو مأخوذإما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق فكما أن ضربَه تطبيقُه بقالبه كذلك استعمالُ الأمثال في مضاربها تطبيقُها بها كأن المضاربَ قوالبُ تُضرب الأمثالُ على شاكلتها لكنْ لا بمعْنى أنها تنشأ بحسَبها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنها تورَدُ منطبقة عليها سواءٌ كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثالِ التنزيلية فإن مضاربها قوالبُها أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة فإنها وإن كانت مصنوعةً من قبلُ إلا أن تطبيقها أي إيرادَها منطبقةً على مضاربها إنما يحصُل عند الضرب وإما من ضرب الطين عى الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق كأن من يستعملها يُلصِقها بمضاربها ويجعلها ضربةَ لازب لا تنفك عنها لشدة تعلّقها بها ومحلُّ أن يضرب على تقدير تعدية يستحي بنفسه النصبُ على المفعولية وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفضُ بإضمار مِن وعند سيبويه النصبُ بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها ومثلا مفعول ليضرب وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاماً وشياعاً كما في قولك أعطني كتاباً ما كأنه قيل مثلاً ما من الأمثال أيَّ مثلٍ كان فهي صفة لما قبلها أو حرفية مزيدة لتقوية النسبةِ وتوكيدها كما في قوله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} وبعوضةً بدل من مثلاً أو عطف بيان عند من يجوز في النكرات أو مفعول ليضرب ومثلاً حال تقدمت عليها لكونها نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو بعوضة والجملة على تقدير كونِ ما موصولةً صلة لها محذوفة الصدر كما في قوله تعالى {تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ} على قراءة الرفع وعلى تقدير كونها موصوفة صفة لها كذلك ومحل ما على الوجهين النصبُ على أنه بدل من مثلاً أو على أنَّه مفعولٌ ليضرب وعلى تقدير كونِها إبهاميةً صفةٌ لمثَلاً كذلك وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهي خبرٌ لها كأنه لما ورد استبعادُهم ضربَ المثل قيل ما بعوضة وأيُّ مانع فيها حتى لا يُضرب بها المثل بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع في قوله صلى الله عليه وسلم لوكانت الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناح بعوضة ماسقى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ والبعُوض فعُول من البعض وهو القطع كالبَضْع والعَضْب غلب على هذا النوع كالخُموش في لغة هذيل من الخمش وهو الخَدْش
{فَمَا فَوْقَهَا} عطف على بعوضة على

الصفحة 72