كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

وضوحه، وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى- عليه السلام- إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا: إن تفجير الماء كان لمعنى خاص بالحجر لا لكرامة موسى عند ربه- تعالى-.
والفاء في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً كسابقتها للعطف على محذوف تقديره: فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى.
وكانت العيون اثنتي عشرة عينا لأن بنى إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطا، والأسباط في بنى إسرائيل كالقبائل في العرب. وهم ذرية أبناء يعقوب- عليه السلام- الاثنى عشر، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عينا إكمال للنعمة عليهم، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر:
وقال- سبحانه-: فَانْفَجَرَتْ. وقال في سورة الأعراف فَانْبَجَسَتْ والانبجاس خروج الماء بقلة. والانفجار خروجه بكثرة، ولا تنافى بينهما في الواقع لأنه انبجس أولا. ثم انفجر ثانيا، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.
وقوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا أى: قد عرف كل سبط من أسباط بنى إسرائيل مكان شربه، فلا يتعداه إلى غيره، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم، واطمئنان نفوسهم، وعدم تعدى بعضهم على بعض.
وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله.
وقد جمع- سبحانه- بين الأكل والشرب- وإن كان الحديث عن الشراب- لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى، وقد قيل هنالك: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان.
وقوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمة في غير ما وضعت له، بعد أن أذن لهم في التمتع بالطيبات، لأن النعمة عند ما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة، ويعيث في الأرض فسادا. قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
والمعنى: ولا تسعوا في الأرض مفسدين، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم.
قال ابن جرير- رحمه الله-: (وأصل العثا شدة الإفساد بل هو أشد الإفساد، يقال منه:

الصفحة 145