كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، ولهذا قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ أى ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم «1» .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير- رحمه الله- يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى- عليه السلام- لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين. بطرين، والله- تعالى- يكره من كان كذلك، وأن قول موسى- عليه السلام- لهم «اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم» من باب التوبيخ والتجهيل لهم، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه.
هذا، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإمام ابن كثير لما يأتى:
أولا: أن القراءة بالتنوين متواترة، وابن جرير نفسه لم يجوز القراءة بغيرها، وهذه القراءة المتواترة، نص في أن المراد من مصر، أى بلد كان، لا مصر فرعون، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعدا شاسعا، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون.
ثانيا: لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره، بل الثابت أن بنى إسرائيل خرجوا من مصر، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ولكنهم أبوا طاعة نبيهم- عليه السلام- فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعا في التيه، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله- تعالى- وهبطوا إلى الشام. وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون.
ثالثا: ليس في الآية ما يشعر بأن موسى- عليه السلام- طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإشارة؟
رابعا: دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم. فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه، كما يشعر بذلك قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة. وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ للتهديد والتوبيخ والتجهيل.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 102.

الصفحة 152