كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

ثم بين- سبحانه- العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ:
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كناية عن لزومهما لهم، وإحاطتهما بهم، كما يحيط السرادق بمن بداخله.
قال صاحب الكشاف: (جعلت الذلة محيطة بهم، مشتملة عليهم، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة) «1» .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم، بظاهر جسم آخر بشدة، يقال: ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق.
والذلة: على وزن فعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلة وذلة، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة.
والمسكنة: مفعلة من السكون، ومنها أخذ لفظ المسكين، لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض، لما به من الفاقة والفقر، والمراد بها في الآية: الضعف النفسي، والفقر القلبي الذي يستولى على الشخص، فيجعله يحس بالهوان، مهما يكن لديه من أسباب القوة.
والفرق بينهما وبين الذلة. أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو.
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها، وتوارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل. ولقد عاش اليهود قرونا وأحقابا مستعبدين لمختلف الأمم، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفا نفسيا جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة، بل إنهم ليفضلون الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضا من أغراض الدنيا، ومهما كثر المال في أيديهم، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير.
وقوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم، فهم في الدنيا أذلاء حقراء، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 217.

الصفحة 153