كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

قال ابن جرير- رحمه الله- يعنى بقوله تعالى وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء، ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعنى تنصرف متحملهما، وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام إذا. ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط «1» .
وقال صاحب الكشاف: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ من قولك باء فلان بفلان، إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته، أى صاروا أحقاء بغضبه «2» .
ثم صرح- سبحانه- بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه، فقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. والجملة الكريمة استئناف بيانى جواب عن سؤال تقديره: لم فعل بهم كل ذلك؟ فكان الجواب، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله، وبسبب قتلهم لأنبيائه، وخروجهم عن طاعته ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلغون عن الله- تعالى- وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات، ومردودا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ.
وقوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين، ولقد قتل اليهود- فيمن قتلوا من الأنبياء- زكريا وابنه نحيى- عليهما السلام- لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم.
وقال- سبحانه- بِغَيْرِ الْحَقِّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا، لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم، وتقبيح إجرامهم، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم، أو تأول في الحكم، أو شبهة في الأمر، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 315.
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 217.

الصفحة 154