كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

(وقد نبهت الآية الكريمة، على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب، ويقذف به في عذاب الحريق، ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا: إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى بتدبر وخشوع، وليعمل به بتقبل وخضوع) «1» .
هذا وما أرشدهم إليه نبيهم- عليه السلام- كان كافيا لحملهم على أن يذبحوا أى بقرة تنفيذا لأمر ربهم، ولكن طبيعتهم الملتوية المعقدة لم تفارقهم، فأخذوا يسألون كما أخبر القرآن عنهم بقوله: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟
أى: قال بنو إسرائيل لموسى اطلب لنا من ربك أن يبين لنا حالها وصفاتها «2» . وسبب سؤالهم عن صفتها، تعجبهم من بقرة مذبوحة بأيديهم، يضرب ببعضها ميت لتعود إليه الحياة، وكأنهم- لقلة فهمهم- قد توقعوا أن البقرة التي يكون لها أثر في معرفة قاتل القتيل، لا بد أن تكون لها صفة متميزة عن سائر جنسها.
وسؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله- تعالى- ومع نبيهم موسى- عليه السلام- لأنهم قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ فكأنما هو رب موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعنى موسى وربه ومع هذا فقد أجابهم إجابة المربى الحكيم للأتباع السفهاء الذين ابتلى بهم فقال: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ «3» وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ.
أى: قال لهم موسى بعد أن أخبره الله بصفتها: إنه- تعالى- يقول: إن البقرة التي آمركم بذبحها لا مسنة ولا صغيرة، بل نصف بينهما، فاتركوا الإلحاح في الأسئلة، وسارعوا إلى امتثال ما أمرتم به.
__________
(1) مجلة لواء الإسلام العدد السابع السنة الثانية ص 8.
(2) (ما) هنا مراد بها السؤال عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يتكلمون عن حاتم أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان، ولم يعلم صفتيهما ما حاتم؟ أو ما الأحنف؟ فيقال: كريم أو حليم.
(3) الفارض المسنة اسم للبقرة التي انقطعت ولادتها من الكبر، وسميت بذلك لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر هي الفتية مشتقة من البكرة- بالضم- وهي أول النهار، والمراد بها هنا التي لم تلد. قال ابن جرير (البكر من إناث البهائم وبنى آدم ما لم يفتحله الفحل) والعوان هي المتوسطة في السن:
وصح إضافة (بين) إلى اسم الإشارة (ذلك) لأنه أشير إلى الفارض والبكر. قال ابن جرير: (العوان النصف التي قد ولدت بطنا من بطن.. وجمعها عون. يقال: امرأة عوان من نسوة عون، وحرب عوان إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد أخرى) .

الصفحة 165