كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

نقضوا عهودهم، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه: اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره، وألا يخرجه من دياره. على حد قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» أى فليسلّم بعضكم على بعض.
وفائدة هذا التعبير، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قويا وعميقا، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه، وإخراجه له من داره إخراجا لها.
قال صاحب المنار: (وقد أورد- سبحانه- النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر فقال تعالى:
لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم» «2» .
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به، إذ المعنى: ثم اعترفتم بهذا الميثاق- أيها اليهود- ولم تنكروه، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإشهاد؟.
لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك أنهم نقضوا عهودهم، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه، فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.. أى: ثم أنتم- يا معشر اليهود- بعد اعترافكم بالميثاق، والتزامكم به، نقضتم عهودكم، وارتكبتم في حق إخوانكم ما نهيتم عنه، من القتل والإخراج، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء، ومن يحترم المواثيق.
ولما كان قتل بعضهم لبعض، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة، بين- سبحانه- أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجاوزة الحدود، فقال تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تظاهرون: من التظاهر وهو التعاون، وأصله من الظهر، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر. والمعنى: تتعاونون على قتل إخوانكم
__________
(1) سورة النور الآية 61.
(2) تفسير المنار ج 1 ص 372.

الصفحة 192