كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 1)

فيها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال- سبحانه-: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً.
قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ أى لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه: مشتق من السنة، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هاء، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات، ولقولهم: سانهته إذا عاملته سنة فسنة، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة. أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنه واوا، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات.
وقوله: نُنْشِزُها أى نرفعها. يقال: أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه. وأصله من النشز- بفتحتين وبالسكون- وهو المكان المرتفع. وقرئ ننشرها- بضم النون والراء- أى نحييها من أنشر الله الموتى أى أحياهم. والمعنى: قال الله- تعالى- لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته. وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة.
وقوله: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق، والتقدير: فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أى انظر وتأمل في هذه العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها.
وقيل المعنى: وانظر إلى العظام أى عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده.
قال ابن كثير: قال السدى وغيره: تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع، ثم ركب كل عظم في موضعه، وذلك كله بمرأى من العزير» «1» .
وجاء الضمير في قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ بالإفراد مع أن المتقدم طعام وشراب، لأنهما متلازمان
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 314.

الصفحة 598