كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 1)

وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ حِينَئِذٍ وَبَقِيَّةِ الشُّرُوطِ أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ تُتَوَقَّعُ فِيهِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ فَتَبْعَثُ الْعَدُوَّ عَلَى إلْزَامِ عَدُوِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ.
فَاحْتَاطَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ وَاشْتَرَطَ مَعَهُ آخَرَ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، فَإِذَا اتَّفَقَا فِي الْمَقَالِ قَرُبَ الصِّدْقُ جِدًّا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانٌ وَغَلَبَةٌ وَقَهْرٌ وَاسْتِيلَاءٌ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَمْنَعُهُ الْحَمِيَّةُ وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً لِنُقْصَانِهِنَّ فَإِنَّ اسْتِيلَاءَ النَّاقِصِ أَشَدُّ فِي ضَرَرِ الِاسْتِيلَاءِ فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَنْ النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSوَالْعُمُومِ وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِتَقْسِيمِ حَاصِرٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ وَإِبْرَامُ حُكْمٍ وَإِمْضَاءٌ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ تَرَتُّبُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِلَّا فَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى بَيَانِ تَفَاصِيلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَاعْتِبَارَاتِهِمْ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِأَنَّ لِزَيْدٍ قِبَلَ عَمْرٍو دِينَارًا غَيْرُ قَاصِدٍ بِذَلِكَ الْخَبَرَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ شَاهِدًا عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ يُسَمَّى مُخْبِرًا، وَكَذَلِكَ الْمُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَعْرِيفُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يُسَمَّى عِنْدَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ رَاوِيًا، وَإِنْ سُمِّيَ كَمَا فِي الْأَقَاصِيصِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الرُّوَاةِ مَا يَشْتَرِطُونَ فِي رُوَاةِ تَعْرِيفِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ مَا مَعْنَاهُ (إنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَ مُقْتَضَاهَا إلْزَامًا لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ رُبَّمَا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا، وَالْعَدَاوَةُ رُبَّمَا بَعَثَتْ عَلَى إلْزَامِ الْعَدُوِّ وَعَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ، احْتَاطَ الشَّارِعُ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ) قُلْتُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُهُ مَا قُلْتُهُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِالْإِخْبَارِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ فِي عَدُوِّهِ مِنْ إلْزَامِهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانَ قَهْرٍ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَلَى النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ) قُلْت هَذَا مُنَاسِبٌ كَمَا قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِشَهَادَةِ الْأُنْثَى فِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا اطِّلَاعُ الرِّجَالِ، لَكِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ بِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مُحَالُ الضَّرُورَاتِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الْإِطْلَاقِيِّ، وَجَعَلَهَا مِثْلَهُ بِشَرْطِ الِاسْتِظْهَارِ بِأُخْرَى فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الِاتِّفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ إذْعَانَ النُّفُوسِ لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الْإِطْلَاقِيَّةِ أَشَدُّ مِنْ إذْعَانِهَا لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فَرَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْصَنِينَ» وَمَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ كَآيَةِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الْآيَةَ نُسِخَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى النَّسْخِ إلَى بَدَلٍ كَمَا فِي آيَتَيْ الْأَنْفَالِ وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فَإِنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَى مُنَاجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُطَهِّرَهُ حَتَّى يَكُونَ أَهْلًا لِمُنَاجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُسِخَ بِلَا بَدَلٍ لِاسْتِلْزَامِهِ قِلَّةَ الْأَسْئِلَةِ فَإِنَّ فِي السُّكُوتِ رَحْمَةً كَمَا وَرَدَ «اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ وَقَدْ شَدَّدَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْبَقَرَةِ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ صِفَاتِهَا حَتَّى غَلَتْ» .
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَمْ يَقَعْ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْبَدَلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجَوَازُ الْمُطْلَقُ الصَّادِقُ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَمِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تُخِلُّ بِالْفَهْمِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْظُومَةِ مَعَ إضَافَةِ النَّسْخِ إلَيْهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ مُرَجِّحًا التَّجَوُّزَ عَلَى الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا تَجَوُّزٌ ثُمَّ إضْمَارٌ، وَبَعْدَهُمَا نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ، وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهَا نَسْخٌ فَمَا بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ وَلَوْ جَرَى عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَاءِ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ لَقَالَ تَجُوزُ مِثْلُ إضْمَارٍ وَبَعْدَهُمَا إلَخْ، وَيَتَحَصَّلُ فِي تَعَارُضِهَا عَشْرُ صُوَرٍ هِيَ تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالتَّجَوُّزِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالنَّقْلِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالِاشْتِرَاكِ فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكِ، فَيُقَدَّمُ كُلٌّ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ، تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالنَّقْلِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ، وَالْأَصَحُّ اسْتِوَاءُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى النَّقْلِ

الصفحة 6