كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد (اسم الجزء: 1)

وَهَذَا أَصَحُّ التَّقْدِيرَيْنِ.
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ ثَالِثٌ: أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ رَابِعٌ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ، وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ " الْحَسْبَ " وَ" الْكِفَايَةَ " لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَالتَّوَكُّلِ وَالتَّقْوَى وَالْعِبَادَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] [الْأَنْفَالِ: 62] . فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ، وَأَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] [آلِ عِمْرَانَ: 173] . وَلَمْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ، وَمَدَحَ الرَّبُّ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ: اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ حَسْبُكَ، وَأَتْبَاعُهُ قَدْ أَفْرَدُوا الرَّبَّ تَعَالَى بِالْحَسْبِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي حَسْبِ رَسُولِهِ؟! هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ وَأَبْطَلِ الْبَاطِلِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] [التَّوْبَةِ: 59] . فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] [الْحَشْرِ: 7] . وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] [التَّوْبَةِ: 59] . وَلَمْ يَقُلْ: وَإِلَى رَسُولِهِ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8] [الِانْشِرَاحِ: 7 - 8] . فَالرَّغْبَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى وَالسُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالنَّذْرُ وَالْحَلِفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ

الصفحة 38