كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد (اسم الجزء: 1)

( [الْأَحْزَابِ: 36] . فَقَطَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّخْيِيرَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا بَعْدَ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ إِذَا أَمَرَ فَأَمْرُهُ حَتْمٌ، وَإِنَّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إِذَا خَفِيَ أَمْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَبِسُنَّتِهِ، فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سَائِغَ الِاتِّبَاعِ، لَا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ تَرَكَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ اتِّبَاعُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلِّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ؟ فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، كَمَا لَا تَشْرِيعَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ، فَإِنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى قَوْلِهِ إِذَا أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ، فَكَانَ مُبَلِّغًا مَحْضًا وَمُخْبِرًا لَا مُنْشِئًا وَمُؤَسِّسًا، فَمَنْ أَنْشَأَ أَقْوَالًا وَأَسَّسَ قَوَاعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا، وَلَا التَّحَاكُمُ إِلَيْهَا حَتَّى تُعْرَضَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ طَابَقَتْهُ وَوَافَقَتْهُ وَشُهِدَ لَهَا بِالصِّحَّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ وَجَبَ رَدُّهَا وَاطِّرَاحُهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً، وَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ وَالْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَرْكُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ فَكَلَّا وَلَمَّا.
وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] [الْقَصَصِ: 68] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالِاخْتِيَارِ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ - وَهُوَ سُبْحَانَهُ - كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [القصص: 68] فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا يَشَاءُ) فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ هِيَ الِاخْتِيَارُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا: الِاجْتِبَاءُ وَالِاصْطِفَاءُ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ بَعْدَ الْخَلْقِ، وَالِاخْتِيَارُ الْعَامُّ اخْتِيَارٌ قَبْلَ الْخَلْقِ، فَهُوَ أَعَمُّ وَأَسْبَقُ، وَهَذَا أَخَصُّ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارٌ لِلْخَلْقِ. وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قَوْلِهِ: (وَيَخْتَارُ) .

الصفحة 40