كتاب جامع المسانيد والسنن (اسم الجزء: 1)

بن عفان استدعي بتلك الصحف من عند أم المؤمنين حفصة، ورتب سورها على العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جبريل في آخر سنيه السنية، فإنه كان يُعارضه بما أوحاه إليه في كل رمضان مرة، فلما كان آخر رمضان صامه، الذي أنزل عليه فيه القرآن، عارضه مرتين (¬1) فكان ذلك إشارة إلى انقضاء عمر سيد الثقلين، / فكتبه أمير المؤمنين عثمان بن عفان على العرضة الأخيرة منهما، وألزم الناس أن يقرءوا على رسم ما رسمه في المصحف الإمام، وأنْفَذَ به نُسخاً إلى بقية الأمصار الكبار، ليقتدي بها الأنامُ ما بقيت الأيام.
فقابلت الأمة ذلك بالسمع والطاعة، وحرقوا عن أمره بقية المصاحف المخالفة لتلاوة الجماعة، وكانوا قد تآلبت (¬2) تلاوتهم، وخطاً بعضهم بعضاً، حتى كثرت القالة والشناعة، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بما اعتمده من هذا الصنيع الذي لم يسبق إليه ولا يُلحق فيه، وقد أمر بمتابعته والاقتداء به صاحب الشفاعة. وودَّ علي بن أبي طالب في أيامه أن لو كان صاحب ذلك لو قُدِّر له أو قَدَر عليه، وقد بسط بفضل عثمان كف الضراعة (¬3) وقد أخذ التابعون لهم بإحسان عنهم تلاوة القرآن قَرْنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وخلفاً عن سلفٍ إلى هذا الأوان.
¬_________
(¬1) يشير بذلك إلى حديث معارضة جبريل للنبي بالقرآن في رمضان الأخير مرتين، عن عائشة عن فاطمة عليهما السلام قالت: (أسر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى) ، صحيح البخاري كتاب التفسير: فضائل القرآن: 9/43.
(¬2) يعني تمسك كل فريق بما يظنه صواباً ولو كان باطلاً، انظر لسان العرب 1/215، يشير بذلك إلى حديث حذيفة بن اليمان حين قدم على عثمان لما أفزعه اختلافهم في القراءة، فأشار على عثمان أن يجمعهم على قراءة واحدة ثابتة، انظر الحديث في صحيح البخاري في كتاب التفسير باب جمع القرآن: 9/10.
(¬3) يقصد بذلك ما ورد من ثناء أمير المؤمنين علي، على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهما وتمنيه أن لو فعل في المصاحف مثله، فقد ورد عنه أنه قال: (لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت بالمصاحف مثل الذي فعل عثمان) وقال أيضاً: (لا تقولوا في عثمان إلا خيراً. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملامنا) ... الخبر انظر فتح الباري جـ19 صـ 21 - 24. والإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ 1 صـ 240، والبرهان للزركشي جـ 1 صـ 240.

الصفحة 59