من أن القصائد أصابها بعض التغيير أثناء سفرها الطويل من الجاهلية إلى عصر التدوين، فقد يستبدل الراوى كلمة بأخرى ترادفها، وقد يغيب عن ذاكرته بعض الأبيات، وقد يخالف فى ترتيب أبيات القصيدة فيقدم فيها أو يؤخر. غير أن ذلك لا يخل بصحة ما حمله ورواه العلماء الثقات الذين نصّوا على المنتحل المصنوع على نحو ما يصور لنا ذلك كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام.
وإذا تركنا المستشرقين إلى العرب المحدثين والمعاصرين وجدنا مصطفى صادق الرافعى يعرض هذه القضية قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى عرضا مفصلا فى كتابه «تاريخ آداب العرب» الذى نشره فى سنة 1911 ولكنه لا يتجاوز فى عرضه-غالبا-سرد ما لاحظه القدماء (¬1)، ونحن نحمد له استقصاءه لملاحظاتهم كما نحمد له ما وقف عنده من شعر الشواهد للمذاهب النحوية والكلامية، فقد لاحظ ما دخل هذا الشعر من بعض الوضع، وهو وضع سجله القدماء أنفسهم ولم يفتهم التنبيه عليه.
وخلف مصطفى الرافعى طه حسين فدرس القضية دراسة مستفيضة فى كتابه «الشعر الجاهلى» الذى أحدث به رجة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للرد عليه. ولم يلبث أن ألف مصنفه «فى الأدب الجاهلى» الذى نشره فى سنة 1927 وفيه بسط القول فى القضية بسطا أكثر سعة وتفصيلا، إذ زودها ببراهين جديدة، وقد خصص لها فى مصنفه أربعة كتب، هى الكتاب الثانى والثالث والرابع والخامس، ونراه يعنى فى الكتاب الثانى ببيان الأسباب التى تحمل على الشك فى الشعر الجاهلى، ويقدم بين يديها نتيجة بحثه فيقول: «إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية فى شئ، وإنما هى منتحلة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شئ، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى (¬2)».
¬_________
(¬1) انظر الطبعة الثانية من هذا الكتاب ص 277 وما بعدها.
(¬2) فى الأدب الجاهلى (الطبعة الأولى) ص 64.