كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 1)

المناذرة والغساسنة سفيرا لقومه الذبيانيين، وكيف كان يحتل بين الشعراء مكانة مرموقة فى داخل الجزيرة وفى مكة وسوق عكاظ. وبحثت فى ديوانه على ضوء رواية الأصمعى، وأنكرت منها خمس قصائد على رأسها قصيدته فى المتجردة. وشعره من هذه الناحية أوثق من شعر امرئ القيس لأنه أقرب منه عهدا، ولم تدخل الأسطورة فى حياته ولا فى شعره. ووقفت عندما اشتهر به من مديح واعتذار، مبينا قدرته على الوصف ورصف الموضوعات وتنسيق المعانى وابتكار الصور والأخيلة، يهديه فى ذلك كله ذوق مهذب، هذبته الحضارة التى نعم بها فى الحيرة وعند الغساسنة، فإذا هو صاحب حسّ دقيق وشعور رقيق.
وكان يعاصره زهير بن أبى سلمى المزنى، وقد نشأ فى بنى مرة الذبيانيين بحيث عدّ فيهم، وتصادف أن كان خاله شاعرا وأن كان زوج أمه أوس بن حجر من كبار الشعراء الجاهليين، فحمل عنهما جميعا الشعر، وعاش له يتعلمه ويعلمه شعراء من بيته ومن غير بيته، بحيث أصبح أستاذا لمدرسة عرفت به.
وقد وقفت عند ديوانه وأسقطت منه ما أسقطه الأصمعى. ولا حظت أن الشعر عنده انتهى إلى صورة مثالية من التنقيح والتحبير فى قوالبه وصيغه تحبيرا لا حظه القدماء إزاء بعض مطولاته، فقالوا إنه يصنع القصيدة فى حول كامل وإن له سبع حوليّات.
وهو يضم إلى هذا التحبير عناية بعيدة بالتشبيهات والاستعارات، بحيث يعدّ حقّا شاعر التصوير فى العصر الجاهلى وكان يكثر من الحكم ومن الدعوة إلى الخير والسلام، فلا نغلو إذا قلنا إن شعره يعد صورة رفيعة للخير والحق والجمال.
وانتقلت إلى الأعشى، فتحدثت عن حياته التى كان ينفقها متنقلا فى أنحاء الجزيرة، ثم عرضت لديوانه، واضطررت لبحثه من خلال رواية يكثر فيها الانتحال، وتصادف أن كان راوية شعره مسيحيّا، فنحله كثيرا من الأفكار المسيحية، وتداول شعره القصّاص والوعّاظ المسلمون، فأضافوا إليه أشعارا كثيرة، لغرض العظة والاعتبار. كما أضاف إليه الرواة غير قصيدة، كقصيدته رقم 24 التى تحكى قصة وفاء السموأل. وجعلنا هذا كلّه نشك فى كثير من قصائده وأشعاره، وإذا بنا نرفض أكثرها، ولا نبقى له إلا على نحو عشرين قصيدة.
وقد لا حظت عليه غلوّا فى المديح وتأثرا دقيقا بالحضارة التى عاصرته فى الحيرة، حتى

الصفحة 428