كتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (اسم الجزء: 1)

لأن الحوت يأكل كثيرًا، ولا يجوز فيه الهمز، فلهذه العلة هُمز الذئب ولم يهمز الحوت.
وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات1
ويكثر سيبويه المتوفَّى سنة 180 في كتابه من المفاضلة والاحتجاج لبعض القراءات التي قُرئت بها شواهده من القرآن الكريم، وأكثر معوَّله في ذلك على العربية ومبلغ القراءة التي يعرض لها من الموافقة للكثير الشائع من الأساليب واللغات، وعلى تحليل النص لإبراز معناه وإيضاح ما قد يكون بينه وبين أشباهه من فروق.
فيقول في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده: "وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب مَن يقول: إِنْ عمرًا لمنطلق، وأهل المدينة يقرءون: "وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ" يخففون وينصبون، كما قالوا:
كأَنْ ثدييه حقان
وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل: لم يك، ولم أبل، حين حذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء بالحذف كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما"2.
وقال في باب الفاء: "وقال عز وجل: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ} فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملَكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعملون؛ ليجعلا كفره سببًا لتعليم غيره؛ ولكنه على كفروا فيتعلمون، ومثله: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون"3.
وفي كتب معاني القرآن تخريجات لاختلاف الإعراب، واحتجاج لوجوه هذا الاختلاف، ونذكر على سبيل المثال كلام أبي يحيى زكريا الفراء -المتوفَّى سنة 207- عن آية: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} 4، وآية: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 5.
وبدا لبعض القراء أن يجمعوا القراءات المختلفة، ويبحثوا عن أسنادها، فكان هارون بن موسى الأعور -المتوفَّى قبل سنة 200- أول مَن سمع بالبصرة وجوه القراءات، وألَّفها، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن أسناده فيما يقول عنه أبو حاتم السجستاني6.
__________
1 إنباه الرواة: 2/ 258.
2 الكتاب: 1/ 283.
3 الكتاب: 1/ 432.
4 معاني القرآن: 1/ 105.
5 المصدر السابق: 210.
6 طبقات القراء: 2/ 348.

الصفحة 9