كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

مالك أبا يوسف حيث نازعَه أن الجمعة لا تُصَلَّى. (١٣٠) وأيضا، فالخطبة ظاهر منها أنها لعرفة لا للجمعة.
فأجاب لِمَ كان؟ فقال: أما يوم عرفة فالجمعة لم تكن فيها، لأنهُ جُعِلَ للنادر حكم الغالب، والغالبُ لا جمعة عليه، إذ هم مسافرون، فليس في ذلك تركُ الواجِب.
وأمّا تركُ تأخير العصر إلى وقتها فلضرورة الِإقبال على الله تعالى في ذلك اليوم أن يتصل، لأنه يوم عظيم لا يُوصَلُ اليهِ الا بالمشقة العظيمة، فكانت مصلحة ذلك الِإقبال أن يحصُلَ أعظمُ من الوقت.
وأما تقديم الجمع ليلة المطر فذلك لأن مصلحة الجمع الذي هو مندوب أعظم عند الله من مصلحة الوقت، وذلك أفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: تفْضُلُ صلاةُ الجماعة صلاةَ الفذ بسبع وعشرين درجة، وقد تقدمت الصورة المذكورة.
وبهذه القاعدة يظهر أن كثرة الثواب وقلتَه قد تُعرف بكثرة المصالح وقلتها، وتُعرف أيضا بكثْرة الفِعل وقِلته، وتعرَفُ أيضا بجهْدِ الفعل ويَسَارَتِهِ، وقد يختلف باختلاف المقاصد، والمقاصد تتفاوتُ غاية، وقد يوجَدُ خلافُ هذا كتفضيل
---------------
(١٣٠) ذكر القرافي رحمه الله هذه المسألة بشئ من البيان، والتفصيل، فقال:
لما حج هارون الرشيد ومعه ابو يوسف، واجتمعا بمالك في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقع البحث في ذلك، فقال أبو يوسف: إذا اجتمع الجمعة والظهر يوم عرفة قدمت الجمعة لانها أفضل وواجبة قبل الظهر مع الإمكان. قال له مالك: إن ذلك خلاف السُّنة، وقال له ابو يوسف: من أين لك ذلك وأنه خلاف السنة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس ركعتين، قبلَهما خطبة، وهذه هي صلاة الجمعة؟ فقال له مالِك: جهر فيهما أوْ أسَرَّ؟ فسكتَ ابو يوسف، فظهرت الحجة لمالك بسبب الإسْرار، رضى الله عنهم-أجمعين. لأن الجمعة جهرية، فلمّا صلى عليه السلام كعتين سِرًّا دل ذلك على أنه صلى الظهر سفرية وترك الجمعة، والخطبة ليوم عرفة لا ليوم الجمحة، لأن عرفة، إنما خطبتُهُ لتعليم الناس مناسك الحج، كانت في يوم الجمعة أوْ لا. اهـ.
قلت: وهذه المناظرة والمحاورة نموذج للمناظرات العلمية الهادئة، والمحاورات الرزينة النافعة التي كان العلماء يتبادلونها بالحجة والمنطق للوصول إلى الحقيقة والصواب والإقناع والاقتناع. رحمهم الله.

الصفحة 175