كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

قلت: بل الظاهر مَا قاله ابن حنبل، فإنه إذا كانت الصدقة عن الميت ينتفع بها الميت، والدعاء له ينتفع به، وليست تلك الأعمال بوجهٍ منسوبةً للميت، وإنما هي للحى، ولكنه مع ذلك سَرَى الثواب للميت، وهل سَرَى الثواب له ولا بقى للحيِّ منه شئ، أو سَرَى وبقي للحي، فإن الله كريم، وخزائنه لا تفنى. فإذا رأى جوادًا قد جاد على فقير وأعطاه ما بيده زاد قربة إلى الله، (١٨٩) فأمضى فعله، ولم ينقصه من ثوابه شيئاً لإمداد الله له؟ الأمر محتمل، والاجماع منعقدٌ على الدعاءِ أنَّهُ ينفع، وهو عمل ليس للمدعوّ له، فكذلك سائر الأعمال.
ثم قوله: المغفرة هي التى حصلت له فقط، ولم تحصل للداعي، ليس كذلك، بل صحَّت المغفرة للمدعوّ له، وللداعى بقول المَلَك مجيبًا للداعي: "ولَكَ مِثلُهُ"، هكذا في الحديث الصحيح. وقولُ المَلَكِ، يحتمل أن يكون دعاءً ويحتمل أن يكون خبرًا، كيف كان فللداعى. وإذا كان الاشتراك بينهُما في المغفرة هكذا فكذلك إذا قرأ قاصدًا إدخال الراحة عليه بل يجري هذا في كل عمل حتى الإيمان؛ لأنا قد قلنا: ليس المراد إلا إعطاء الثواب، وإذا كان الثواب يجوز إعطاؤه في وجه، جاز إعطاؤه في كل وجه، لولا أن الكافر جاء أنه لا يغْفَرُ له إذا مات على الكفر. (١٩٠)
ثم مما يقوى هذه القاعدة، الحديث الصحيح في الصوم، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنتَ تقضيه؟ قال: نعم، قال فدَين الله أحقُّ أن يُقضَى" وأمره بالصوم عنه (١٩١)، وكذلك هذا الحديث الذي فيه الصلاة والصوم، والله أعلم.
---------------
(١٨٩) في نسخة خ: قُرْبُهُ (بالهاء)
(١٩٠) مصداقا لقول الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما".
(١٩١) ونص الحديث رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن عن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسول الله، إن امِّي ماتت وعليها صوم شهر أفاقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضِيَهُ عنها؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى" .. والملاحظ أن الرَّجل في هذا الحديث تحدث عن أمه، ولعل هناك رواية فيها إن أبي مات وعليه صوم شهر ... الخ. وقد سبق ذكر حديث عند البقوري، ينص على الأمر بالصلاة والصيام عن الوالدين، وقد بينت في التعليق أن المراد بالصلاة الدعاء، وأن هناك حديثا يعارض الحديث الذي يرغب في الصلاة والصيام عن الوالدين، فليراجع وليصحح، وليحقق ذلك.

الصفحة 202