كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)
الذي عليه الأصوليون أن الوصف الذى خرج مخرج الغالب لا يكون حجة، والذي لم يخرج مخرج الغالب هو حجة، وهذا كقوله (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -): "في سائمة الغنم الزكاة"، (٨) وذلك أن الغالب على الغنم الرعيُ، والعلْف فيها قليل، ولا سيما ببلاد الحجاز، وهذا كان حجة دون الآخر (٩) من حيث إن الوصف إذا كان غالبا يذكر مع الحقيقة، غلب على الظن أن سبب ذكره ما هو إلا غلبة حضوره في الذهن عند ذكر الحقيقة من حيث تلازمهما في الذهن، فيسبق ذكره على اللسان لذلك، لا لغرض آخر للمتكلم، ولو كان الوصف ليس كذلك لسبق للذهن أن ذكر ذلك لغرض، وسَلْبُ الحكم عن المسكوت عنه يصلح أن يكون غرضه، فحملناه عليه حتى يصرح بخلافه، لأنه المتبادر للذهن من هذا التقييد، فهذا هو الفرق وعلى هذا، من أن، الغالب لا يعتبر، انعقد الإجماع (١٠).
---------------
(٨) تمثيل للوصف الذى خرج مخرج الغالب، كما شرحه وبينه الشيخ البقوري بعد.
(٩) هكذا العبارة في جميع النسخ، حيث جائت بعد التمثيل بالحديث الشريف للوصف الغالب الذى هو غير حجة، وعلى هذا، فاسم الاشارة يشيرُ إلى أقرب مذكور، وهو الوصف الذى لم يخرج مخرج الغالب، وهذا حجة كما قال كل من القرافي والبقوري، ولا يشير إلى الوصف الذى خرج مخرج الغالب فإن هذا لا يكون حجة كما سبق بيانه، وبذلك يستقيم الكلام ويتضح معناه، وينسجم أوله مع آخره ولا يتناقض.
(١٠) عقب ابن الشاط على كلام القرافي في أول هذا الفرق إلى قوله: "وهذا هو الفرق بين القاعدتين، وَسِرُّ انعقاد الإجماع على اعتباره" أي الوصف الغالب، فاستبعد أن يكون السر والسبب في ذلك هو ما ذكره القرافي، وأورده بإيجاز واختصار، البقوري هنا، وقال أي ابن الشاط: كيف يكون الشارع مضطرا إلى النطق بما لا يقصده؟ ! ، هذا محال، فإما أن يكون المراد بالشارع الله تعالى، فاضطراره إلى أمر ما، محال، وإما أن يكون هو النبى - صلى الله عليه وسلم - فكذلك من حيث هو معصوم، والحامل له (أي للقرافي) على هذا الحال إنما هو القول بالمفهوم، والصحيح أنه باطل عند التجرد عن القرائن المفهمة لمقتضاه. اهـ. قلت: يظهر أن الفقيه ابن الشاط رحمه الله وسامحه، يحمل كلام الإمام القرافي أحيانا محملا غير ظاهر ولا وارد، ويوجهه توجها ويؤوله على فهمه تأويلا بعيدا غير سليم. إذ يبعد كل البعد أن يقصد القرافي ذلك، وأن يريد ذلك المعنى الذى اعترض به ابن الشاط. حتى يرد عليه مثل هذا الاعتراض، وأن يلاحظ عليه ذلك الملحظ بهذا الفهم الذى فهمه ابن الشاط.
والذي يمكن أن يقال ويجاب به عن ذلك هو أن القرافي يتحدث عن قاعدتين، واستخلص ما استخلص منهما، كما تحدث عن المتكلم الذى يمكن أن يأتيَ الوصف الغالب وفي الغالب في كلامه وحديثه، بغض النظر عن كونه هو الشارع (أو غيره, مع الاتفاق وتسليم الكل بأن مصدر تشريع الأحكام واستنباطها هو النصوص الشرعية، ولذلك مَثَّل للقاعدة التي يريد تقريرها بالحديث النبوى الشريف. فليتأمل ذلك، والله أعلم بالصواب، وهو الموفق اليه.
الصفحة 259
535