كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

الصورة الثانية: القائف المثبت للأنساب بالخلْق (١٠)، هل يشترط فيه العدد أوْلَا؟ قولان: والظاهر الأرجح شبهه بالشهادة، فإنه خبر متعلق بشخص معين. وإنما شبهوه بالرواية، لأنه منتصب انتصابا عاما، فيقال: وكذلك الشاهد منتصب انتصابا عاما.
فإن قيل: القائف لما كان مستندا في ذلك إلى جعل الحاكم (أي تعيينه في ذلك) خفَّت الضغائن، وضعفت العداوة الحاملة على ظن الكذب، بخلاف الشاهد، فإنه لا يستند في شهادته إلى أمر الحاكم له، قلنا: هذا لو كان لا يقبل قول القائف إلا بعد جعل الحاكم، فَهُوَ يُقبَلُ بجعل الحاكم وبغير جعله، بدليل قبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له لما قال في أسامة بن زيد ما قال، ولم يامرْه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشي في ذلك. (١١)
---------------
(١٠) القائف كما جاء في تعريفه هنا هو المثبت للأنساب بالخلْق، وهو مشتق وماخوذ من القيافة، وفي تتبع الأثر، والتعرف على نسبة الولد إلى أبيه من خلال النظر والتأمل بحذق ونباهة في خلقته وملامحه، وإدراك ما بينهما من شبه، فينسب المولود إلى أبيه من خلال ذلك كما سيأتي فى آخر الكلام على هذه الصورة من الإشارة إلى ذكر قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وعقب ابن الشاط على كلام القرافي فى مسألة القائف هذه، فقال:
ذكر فيه القرافي شبه الشهادة، ولاخفاء على ما تقرر قبلُ في أنه من نوع الشهادة، وذكر شبه الرواية وهو ضعيف لاخفاء به، وذكر السؤال الذى أورده، وهو ضعيف أيضا، وذكر الجواب عنه وهو صحيح لا ريب فيه.
(١١) إشارة إلى الحديث الصحيح المتفق عليه عن عاثشة رضي الله عنها قالت: "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مسروراً تبْرُق أسارير وجهه (أي يتهلل وجهه من الفرح والاستبشار)، فقال: يا عاثشة، ألمْ تَرَىْ أن مجززاً المدلجي دخل على فرأى أسامة وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبَدتْ أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
فزيدٌ هذا كان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد تبناه (أي اعتبره ابناً له حتى كان يُدْعى زيد بن محمد) واستمر ذلك حتى نزلت آية تحريم التبني في الإسلام بقوله تعالى في أوَّل سورة الاحزاب، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وكان لون زيد بن حارثة أبيض، ولون ابنه أسامة أسود, لأن أمه بركة الحبشية كانت سوداء، وكان هذا يسوء ويقلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسبهم زيدا إليه، فلما دخل القائف المدلجي وقال فى حق زيد وأسامة ابنه: هذه الأقدام بعضها من بعض، أي أحَدُ هذين الرجلين ولد للآخر، فرح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفرحُه لا يكون إلا لحق.

الصفحة 267